Site icon IMLebanon

لتركيا تعريفٌ اليوم: الخوف

دعكَ من بريق الانتصار الانتخابي الباهر لـ”حزب العدالة والتنمية” وهو انتصار اقتراعي وليس برنامجيّاً، تُكرِّس الانتخابات التشريعية التركية الأخيرة نمطاً من الفاشية التي يجعلها التكوين التركي الخاص مزيجاً من أنماط الفاشيات التي عرفتها أوروبا، أي الصعود والبقاء في السلطة عبر صناديق الاقتراع، ومن التجسيد الثقافوي الأصولي الإسلامي.

منذ أكثر من سنة دأب معلّقون وسياسيّون أتراك على وصف الانحراف السلطوي للرئيس رجب طيّب أردوغان بأنه يترافق مع “موجة فاشية” إسلاموية في الحياة العامة التركية.

هذه هي النمطية الفاشية كما عرفناها في تجارب القرن العشرين قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها:

قوة شعبية في صناديق الاقتراع تتحوّل إلى قوة شعبوية في ممارسة الحكم واستئصالية في أجهزة الدولة وتهويلية رعاعية في الشارع.

الحزب الحاكم يُنتِج حاكما فرداً هو غالبا القائد المؤسِّس.

إرهاب شعبوي في الشارع يتجسّد في الهجوم العنفي المنظّم باسم “مؤيِّدي” الحزب على وسائل الإعلام المعارضة.

يأتي ذلك بعد أكثر من سنتين من حملات تصفية عشرات الضباط والقضاة بما حوّل تركيا المنتهية من الدولة العميقة العسكرية إلى دولة عميقة بوليسية.

هجوم “قانوني” أي عبر بعض مواقع المؤسسة القضائية على البنية القانونية لملكية وسائل الإعلام ومحاربة المعارضين بتخصيص الدعم المالي للصحف والشبكات الموالية. إلا أن أيا من العهود السابقة لم يسبق الرئيس رجب طيِّب أردوغان في كل تاريخ الجمهورية التركية بما فيها فترات الحكم العسكري المباشر في إقدامه الصريح والوقح على تغيير مجلس إدارة مؤسسة إعلامية خاصة كبيرة تمتلك صحيفتين وقناتين تلفزيونيّتيْن عبر قرار قضائي (أصدره القاضي الشهير نفسه الذي سبق أن منع تويتر العام المنصرم لصالح الحكومة!) وصدور الصحيفتين المعارضتين في اليوم التالي للمصادرة “القانونية”، اليوم التالي فوراً وليس بعد أيام أو فترة انتقالية، بحلة موالية للسلطة أي موالية لشخص رجب طيِّب أردوغان وهما أمران، تأييد الدولة والشخص، لم يعد ممكناً فصلهما في تركيا “حزب العدالة والتنمية”.

دعكَ من البريق الانتخابي الباهر:

هذه المرة لا يتحسّس ديكتاتوريّو العالم المتخلّف رؤوسهم، كما يحصل عندما يصعد حزب أو قائد إلى السلطة بموجة ديموقراطية، فالرئيس أردوغان ينضم علناً إلى ناديهم، ولكن الأوروبيين والأميركيين، حكوماتٍ ونخباً ورأيا عاماً، يعرفون أن عليهم الآن أكثر من أي وقت مضى منذ حزيران 2013 (أحداث حديقة جيزي في اسطنبول) أن يتعاملوا مع حالة سلطوية تسلطية وشعبية وشعبوية في دولة مهمةٍ وحديثةٍ ونمريةِ البنيةِ الاقتصادية في المدى المقبل.

في العمق ترنّحت سمعة رجب طيّب أردوغان في الغرب الديموقراطي. ومن ردود الفعل الغربية يمكن القول أن “الانتخابات” الحقيقية التي جرت في الأسابيع الأخيرة في تركيا والتي سقط فيها أردوغان سقوطاً مدوّيا هي حملته غير المسبوقة على الإعلام: سقط مع إطلاق مناصريه الحجارة لرجم مباني الصحف وشركاتها وسقط في اعتقالات الصحافيين والتنكيل بالمعارضين. وسقط، كما أشرنا في بلوغه الذروة مع “سرقة” شركة إعلامية كبيرة عبر قرار قضائي. كبريات صحف العالم أصدرت بيان استنكار مشتركا لهذا القمع.

التقييم السائد العميق لأردوغان حاليا ولاسيما بعد الانتخابات الأخيرة في أوروبا وواشنطن أنه “حاكم أمر واقع” رغم الغلاف الانتخابي الجدي لسلطته. ستتعامل الحكومات الغربية مع أردوغان على أنه يقبض على بلد ولكن النخب الأوروبية بمن فيها الصحافة لم يعد ممكنا أن تقبله كحاكم “طبيعي”. في الشرق والعالم المسلم لا مشكلة في صورته التي باتت تشبه صورة الشرق الكئيبة، لكن هذه المشكلة تبدأ من الضفة الغربية للعالم الذي كانت تركيا ولا تزال فرصة هذا العالم، وبالتحديد المسلم، لبناء علاقة بنّاءةٍ بين الإسلام والحداثة.

مضت السنوات التي بدا فيها الرئيس رجب أردوغان، وعن حق، يمثّل أفضل ما في تركيا. لقد صار اليوم يمثِّل بعض أسوأ ما في تركيا. وستُدرَس حقبتُه، التي لا أشك أنها دخلت في انحطاط نوعي عميق منذ لفَظَتْها النخب الطليعية التركية، على أنها حقبة ذلك “الرجل الذي أراد أن يصبح سلطاناً” حسب الفيلم السينمائي الشهير لسين كونري.

في أيامه الصاعدة كان أردوغان أملاً تحديثيّاً يدير دينامية اقتصادية قادرة على استقطاب ثقة أعلى المؤسسات الدولية وخصوصا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كما كان يحمل وعدا مدنيا ضد الوصاية العسكرية ونظيفا ضد فساد الطبقة السياسية التقليدية.

في الانتخابات الأخيرة الفائز الأول هو الخوف في تركيا. وأردوغان أصبح رجل الخوف التركي: الخوف على الاستقرار والخوف على وحدة تركيا ومنذ سنتين الخوف على الاقتصاد والليرة. اقترعت نسبة الخمسين بالماية الفائزة من الأتراك إلى جانب هذا الخوف ولم يكن ممكنا هذا الانتصار الأردوغاني لولا حليفه… الخوف. الإله الذي صنعه بيديه وغذّاه في الأشهر الخمسة الأخيرة. كان الجيش في تركيا السابقة هو الذي يقوم بالانقلابات باسم الحفاظ على الاستقرار كما حصل في أعوام 1960 و1971 و1980. رجب طيب أردوغان قام بـ”الانقلاب” الشعبي باسم الحفاظ على الاستقرار.

اليوم كبرت”داعش” الوحشُ الذي من الثابت أن مخابرات الرئيس أردوغان ساهمت في ولادته وانتشاره. كبر إلى حد أنه، كما توقع كثيرون سابقاً، ارتد على تركيا نفسها. ولكنه في ذهابه وإيابه نجح في توظيفه لصالحه. ذهابا في تفجير الجيوبوليتيك السوري والعراقي وفي إيابه للفوز بالانتخابات والبقاء في السلطة. قبل سنة ونيِّف تقريبا نشرت مؤسسة إحصائية محترمة في اسطنبول إستطلاعاً عن اتجاهات الشباب داخل حزب العدالة والتنمية فتبين أن نسبة 70 بالماية منهم معجبة بتجربة داعش. بالتأكيد اليوم النسبة لا بد أن تكون قد تراجعت جدا بعدما بدأت “داعش” بتفجيرات داخل تركيا.

يبدو اليوم وكأنه فات الأوان لمطالبة رجب طيّب أردوغان بسياسة مصالحة في المجتمع: مع النخب والصحافة والأقلّيّتيْن الكردية والعلوية ومع الأحزاب وحركة “حزمت” الإسلامية مثلما طالبه الجميع في تركيا بهذه السياسة، مرة بعد الانتخابات الرئاسية وقبلها بعد الانتخابات النيابية الثالثة ما قبل قبل الأخيرة.

حسب الباحثة التركية غونول تول مديرة مركز الدراسات التركية في معهد واشنطن فإن حزب الشعوب الديموقراطي ( DHP القوة الممثلة للأكراد) خسر مليون صوت قياسا بنتائج الانتخابات قبل خمسة أشهر وحزب الحركة القومية (MHP الحزب القومي التركي المتشدّد) مليوني صوت. الثاني بسبب تبنّي جزء من القوميين لحزب العدالة والتنمية كمقاتل للأكراد والأول بسبب توتر أوضاع مناطقه والخوف على الاستقرار.

عندما يدعو أردوغان العالم إلى احترام نتائج الانتخابات فهو يعبّر عن عدم ثقته بمدى مصداقية هذه الانتخابات إذا نُظِر إليها بكامل بنيتها وليس فقط يومها الاقتراعي.

يبقى حول توقعات المرحلة المقبلة في السياسة الخارجية، فعلى العكس مما قد يعتقد البعض أن إمساك أردوغان وحيدا بالسلطة سيؤدي إلى المزيد من تشدّده. ربما كان ما سيتصرّف على أساسه هو معادلة: التصلب الداخلي والمرونة الخارجية. المرونة ليس فقط بسبب الوضع الساخن في جواره العربي الكردي بل أساسا بسبب حاجته إلى استعادة حركة الاقتصاد المرتبك.

هذا الرجل يمكن أن يفعل أي شيء للبقاء في السلطة. وقد فعلها عندما خاض حربا ضارية مع الأكراد بعد هزيمته في حزيران.

ماذا الآن عن المستقبل؟

أظن أن رجب طيّب أردوغان يخطط الآن على جبهتين: العودة إلى مشروع النظام الرئاسي ونقل “المعركة” إلى الاقتصاد… وهذا سيستلزم انخراطا أكبر في البيئة التسووية التي افتتحها الاتفاق النووي فالدخول العسكري الروسي. الحرب طويلة في سوريا والعراق لكنْ هذه المرة، خلافاً للسنوات الماضية، تدور رحى الحرب في مسار بحث عن تسوية. فهل سيتمكن من درء الضعف البنيوي الذي يهدد الاقتصاد التركي والذي لا نعرف أين ينفجر كقنبلة غير موقوتة!

مع ذلك السؤال الآن هل تدفع القبضةُ المحكمةُ والسلطويةُ على مؤسسات الدولة الصراعَ للتفجّر خارج هذه المؤسسات؟ فحين تُغلق إمكانيات التعبير والعمل ستلتهب ديناميات خطرة.

أما على المدى الأقرب فالصحافة التركية المتقدمة ستعيش مرحلة صعبة جدا من الترهيب المباشر وغير المباشر ولكن الحداثة التركية التي تبدو الآن مستكينة بعد الانتخابات سرعان ما ستتابع المواجهة بأشكال مختلفة. تركيا نموذج حداثي ولكن اهتزازه الحالي لن يغيّر الثقة به وبحاجتنا إليه كمسلمين وكمشرقيين