يعود معظم رجال السياسة، وصانعو السياسة الخارجية خصوصاً، بخطى سريعة إلى مبادئ الواقعية السياسية، مبتعدين قدر إمكانهم من مبادئ القيم والأخلاق والحقوق. لا أوضح، دليلاً على ذلك، من عودة الاهتمام الدولي بتركيا، الدولة الممثلة بامتياز للمناطق العازلة في الصراعات الدولية والعلاقات الدولية عموماً.
فجأة عاد بعض علماء السياسة يناقشون نظرية ماكيندر ويعتمدون عليها كأساس لفهم العلاقات بين الدول، وبخاصة الكبرى منها. وأتصور أن مبرر هذه العودة، هو أن أوراسيا، هذه المساحة البرية الشاسعة، عادت هي الأخرى مسرحاً لتطورات استراتيجية ذات أهمية بالغة.
هناك في أقصى الشرق من هذه المساحة، حيث توجد مقاطعة سنكيانغ، بدأت الحكومة الصينية تمد شبكة طرق برية وسكك حديد تغطي دولاً في شمال وسط آسيا بعثاً للهدف القديم المتجدد لطريق الحرير، وهو القارة الأوروبية. وتمتد شبكة أخرى من سنكيانغ أيضاً ولكن نحو الجنوب الغربي مستهدفة ميناء غوادار في باكستان، باعتباره القاعدة البحرية الأهم للصين في الخارج على الطريق نحو أفريقيا والسويس وأوروبا.
بالدرجة ذاتها من الوضوح، نرى الهند صاعدة من الجنوب مارة بأفغانستان بغرض صنع «حلم معكوس»، وأقصد صنع حلم بعكس حلم روسيا القيصرية، حلم الوصول إلى المياه الدافئة وإلى الهند تحديداً. فالهند اليوم تسعى إلى الوصول إلى منابع الطاقة الوفيرة في أقاليم آسيا الوسطى وروسيا. وفي ظني أن كثيرين في الغرب صاروا على عِلمٍ بخطط إيرانية جاهزة للتنفيذ فور رفع العقوبات. أكثر هذه الخطط يركز على مصالح تجارية وثقافية لإيران في مناطق وسط آسيا وشمالها انتهاءً بالأقاليم الآسيوية في الاتحاد الروسي، ومن هناك إلى القسم الغربي من أوراسيا.
من ناحية أخرى، لا تزال روسيا، كالعهد بها منذ عصر القياصرة، منتبهة إلى الأهمية الإستراتيجية الفائقة لهذه المساحة الممتدة من سيبيريا في أقصى الشرق إلى سواحل الأطلسي في أقصى الغرب، ومنتبهة للأهمية القصوى لهذا النصيب الأعظم من هذه المساحة الذي تحتله روسيا والأقاليم التابعة لها.
لم يعد هناك شك في أن علاقات الدول الأطلسية ببعضها بعضاً تعاني منذ فترة ما هو أكثر من الفتور أو البرود، وبخاصة بعد أن تغيرت أولويات طرفي الأطلسي. أتصور أن الأميركيين تنبهوا أخيراً إلى أن أوروبا الغربية تنجذب مثلهم أكثر وأكثر تجاه الشرق، وإن لأسباب أخرى غير تلك التي تشد الأميركيين إلى الشرق. أسباب أوروبا تتعلق بالأمن والحدود واللاجئين ولكن أيضاً بالتجارة والنفط والغاز. بمعنى آخر، يعود قطاع مهم في الفكر الإستراتيجي الأوروبي إلى الاعتماد على أطروحة ماكيندر لفهم توجهات السياسة الدولية في القرن الحادي والعشرين. كلاهما، أميركا وأوروبا، يسعيان نحو الشرق. لكن بينما تنوي أميركا أن تمر رحلتها إلى الشرق عبر البحار والمحيطات، نرى أوروبا مستسلمة لتأثير شبكات الطرق البرية وحِزم السياسات المصنوعة في الصين وطرق الحرير المتطورة المعتمدة أساساً على الامتداد الأوراسي، أي الأوروبي – الآسيوي.
هذا التطور المهم في الفكر الإستراتيجي الأوروبي، والآسيوي أيضاً، يفرض تغييرات مهمة في أدوات السياسة الخارجية ومبادئها وأنماط التحالفات القائمة والمقبلة بين دول «الإقليم الأوراسي»، وبخاصة داخل حلف الأطلسي وبين دول الاتحاد الأوروبي. تواجه هذه الدول، كما هو معروف، تحديات مثيرة تسبَّبت بالتخلي، وإن بتدرُج، عن التزام المبادئ الأخلاقية في علاقاتها بغيرها من دول العالم. ظهر هذا واضحاً في التغيير الذي لامَس علاقاتها بتركيا تحديداً، فحين شعرت أوروبا بأن تركيا تستطيع أن تقوم بدور بوابتها في مواجهة زحف اللاجئين السوريين وغيرهم، سارعت من جانبها إلى التعبير عن تجاهلها أعمال القمع وخرق المواثيق الأخلاقية والحقوقية التي ارتكبتها حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، أو تستعد لارتكابها بحجة قبلتها أوروبا بترحيب، وهي حجة الاستقرار السياسي في تركيا. هكذا حصلت حكومة تركيا على دعم مالي كبير لمساعدتها في إعاشة أكبر عدد ممكن من اللاجئين المقيمين على أراضيها ومنعهم من اللحاق بالأفواج الأولى التي نزلت إلى البحر متوجهة إلى اليونان. حصلت أيضاً على دعم سياسي قدمته بنفسها المستشارة أنغيلا ميركل خلال زيارتها التي كان هدفها، وبحق، تحقيق فوز انتخابي لحزب أردوغان، حين وعدت الشعب التركي بفتح أبواب أوروبا أمام دخوله إليها من دون تأشيرات وهو الحلم الطويل القديم للأتراك الذي توقف في العام 2004، وخابت معه آمال تركية أخرى تتعلق بأمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
اعتقد بأن مأساة اللاجئين السوريين جاءت نعمة لأردوغان على رغم المتاعب التي يمكن أن تتسبب فيها أعدادهم الهائلة. هؤلاء اللاجئون هم الآن أقوى أرصدة أردوغان في علاقته الجديدة بالاتحاد الأوروبي. هناك نِعمٌ أخرى هبطت واحدة بعد الأخرى جعلت تركيا تستعيد مكانتها الإستراتيجية السابقة بالنسبة إلى أوروبا، منها مثلاً، العودة الأوروبية إلى نمط الواقعية السياسية Realpolitik انسجاماً مع البعث الجديد لنظرية ماكيندر والحاجة الماسة إلى تعاون تركيا في مسألة اللاجئين. هناك أيضاً أزمة أوروبا، والغرب بأسره، الاقتصادية والمالية. وهي الأزمة التي جعلت أوروبا تتفاوض مع تركيا من موقع ضعف نسبي، على عكس موقعها في المفاوضات قبل 2004. أضف أيضاً الشعور السائد في أوروبا وخارجها بأن «الناتو» والاتحاد الأوروبي فشل كلاهما في المواجهة مع روسيا حول أوكرانيا، وبأن روسيا خرجت من هذه المواجهة خصماً أقوى، الأمر الذي جعل الموقع الإستراتيجي لتركيا كدولة عازلة يعود إلى سابق أهميته القصوى خلال مختلف مراحل الحرب الباردة. أخيراً، وليس آخراً، يصعب تجاهل حقيقة أن أزمات اليونان وغيرها من دول جنوب أوروبا، إضافة إلى التهديدات البريطانية المتواصلة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي تسبّبت في تشويه سمعة الوحدة الأوروبية وتركَ بروكسيل في موقع ضعف ديبلوماسي غير مناسب لظروف تحوّلات كبيرة في النظام الدولي عموماً وأقاليم الجوار خصوصاً.
لسنا بغافلين عن نقاط الضعف المحتملة في نمط العلاقات الجديد بين تركيا ودول أوروبا، إذ تبقى أوروبا، وبخاصة ألمانيا، المخَلِّص الأكبر لأردوغان وحكومته، غير راضية عن سياسات أردوغان مع الأكراد أو عن علاقاته بتنظيمات إرهابية أو عن تغليبه الثأر الشخصي مع الأسد على العقل والاتزان، أو عن استعداده لتولي مهمات قيادة حلف عسكري إسلامي لا ترى أوروبا لنفسها فيه مصلحة أمنية تذكر، وهو بالتأكيد لا يخدم نمط التفكير الإستراتيجي الأوروبي الجديد والمعتمد على أولوية التمدد الأوراسي.
لن تكون مهمة تركيا ضمن هذا التوجه الإستراتيجي الجديد لأوروبا مهمة سهلة. لا نتحدث هنا عن التدهور الحاصل فعلاً في نواحي الأمن الداخلي والاستقرار الاجتماعي. لكن نشير إلى التطورات المتسارعة في خطط التدخّل المتعدد الأبعاد والأهداف من جانب روسيا في الشرق الأوسط، والصلة المباشرة بين هذه الخطط والأدوار التي يفترض أن تؤديها تركيا خلال السنوات المقبلة. لن يكتفي أردوغان بالدور السلبي لتركيا كمنطقة عازلة، وهو الدور الذي أدّته بامتياز على امتداد عقود، إنما يريد لتركيا دور الطرف القائد في إقليم يبحث عن قيادة.