لا تبدو واشنطن قلقة على مستقبل العلاقات الأميركية – التركية كما تتوقع التحليلات في وسائل الإعلام العالمية، لا بل إنّ أوساطاً ديبلوماسية أميركية تتحدّث عن حتمية التفاهم وهو ما تفرضه مصالح البلدين.
تراقب واشنطن عن كثب تنامي العلاقة وتطوّرها السريع بين موسكو وأنقرة بعدما شكلت تركيا لعقود طويلة حاجزاً صلباً في وجه الطموح الروسي للوصول الى منابع النفط أيام الاتحاد السوفياتي.
لكنّ العالم تغيّر وقواعد اللعبة الدولية اختلفت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، وزوال حلف وارسو من الوجود. رغم ذلك استمر الحلف الأطلسي وبقيت تركيا صاحبة القوة العسكرية الثانية ضمنه بعد الولايات المتحدة الأميركية، لكن مع البحث عن دور جديد يتلاءم والقوة العسكرية الضاربة التي تتمتع بها تركيا في إطار النظام العالمي الجديد.
ربما هذا ما سمح لاحقاً بتخفيف قبضة العسكر بعض الشيء على الحياة السياسية الداخلية، وأدى ذلك الى تسلّل بطيء، ولكن ثابت، للتيار الاسلامي الى داخل مراكز السلطة.
لم تكن واشنطن منزعجة يوماً من تنامي حضور الإسلاميين، لا بل كانت ترى فيه عاملاً قد يساعد على تأمين مصالحها في المنطقة الأكثر اضطراباً في العالم، أي الشرق الاوسط.
لذلك عمد الرئيس باراك أوباما يوم وصوله الى البيت الابيض لتدشين سياسة بلاده الجديدة تجاه البلاد الإسلامية من خلال النموذج التركي، وجاءت زيارته لتركيا وخطابه الشهير واضحين في هذا المضمار.
كانت إدارة أوباما تتحدث بحماسة عن تعميم المثال التركي القائم على حكم إسلامي متطوّر وغير عنفي وقادر في الوقت نفسه على التناغم مع واشنطن وحماية مصالحها. ثم جاءت موجات «الربيع العربي» لتأخذ المنطقة الى اتجاهات أخرى.
فشل مشروع تعميم التجربة التركية وحلّت الفوضى، ما دفع بواشنطن الى دعم مشروع عودة العسكر الى السلطة في مصر، وهو البلد الذي يحظى بموقع جغرافي مهم جداً ومؤثر بشكل مباشر على إسرائيل والخليج العربي وإفريقيا.
وانطلاقاً من هذا الواقع ربما، استُعيدت فكرة إيصال العسكر من خلال الانقلابات. لكنّ تركيا غير مصر والأطراف الدولية التي تتأثر بوضعها مباشرة أكثر وأكبر حضوراً، ففشل الإنقلاب وأجهض في مرحلته الأولى، وجاءت النتيجة عكسية بحيث اكتسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شرعية إسلامية داخل تركيا وخارجها، وباشر حملة تطهير هدفها الفعلي إنهاء دولة أتاتورك وإحلال دولة طابعها إسلامي أكثر.
ورغم ذلك، لا تبدو واشنطن قلقة وهي محقة بذلك. فبعيداً من الواقع والتصريحات، لم يقدم أردوغان على خطوة واحدة جدّية تضرّ بالعمق بالمصالح الأميركية في تركيا، وتكفي الإشارة مثلاً الى إبعاد قاعدة انجرليك حيث الحضور الأميركي المهم والكبير من أيّ إجراءات حاسمة كما هي الصورة على مستوى وحدات الجيش التركي وقطعه.
اليوم تقترب تركيا من روسيا كثيراً في سياسة يأتي جانبٌ منها كردة فعل على الانقلاب الفاشل. لكنّ جوانب أخرى لا تقل اهمية تفرض على أنقرة هذه السياسة، وهو ما كان بدأ في أيّ حال قبل حصول الانقلاب الفاشل بأسابيع عدة.
فهنالك سوريا حيث لروسيا دور محوَري بالتفاهم والتنسيق مع واشنطن، وهنالك أيضاً الاقتصاد والغاز والمحطة النووية التركية الجاري بناؤها تحت إشراف روسيا.
وتبدو واشنطن واثقة بأنّ تركيا لن تتأخر لتعود وتصلح أوضاعها معها، والأخيرة باشرت في أداء اسلوب مساعد لأنقرة في هذا الاتجاه، وهو ما تفسره زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري لأنقرة قريباً.
وتعمل الديبلوماسية الأميركية على رسم دور جديد لتركيا الإسلامية يساهم في رسم سوريا الجديدة. فالشرعية الإسلامية التي اكتسبها أردوغان ستسمح لتركيا بتدجين التيارات الإسلامية الموجودة شمال سوريا وبتطويعها من خلال السماح لوحدات من الجيش التركي بالمشاركة في الحلّ السوري، في استعادة ربما لتجربة القوات السورية في لبنان التي عملت على تطويع وتدجين ميليشيا الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية المسلّحة. وربما بعد ذلك سيفرض الوضع الاقتصادي على أردوغان تقليص حجم الجيش وهو بات مطلباً أميركياً غير معلن.
لكنّ لتركيا الإسلامية على ما يبدو دوراً آخر لا يقل أهمية عن الدور السوري، وهو المساعدة في ترتيب الوضع الفلسطيني في إطار ما يطرح عن إنجاز تسوية سلمية نهائية مع إسرائيل من الفلسطينيين والعرب.
والدور التركي سيتركز من خلال دفع حركة «حماس» لتدوير الزوايا. وفي هذا الإطار تكشف أوساط ديبلوماسية أميركية عن تمنٍّ أميركي لقيادة «حماس» بالمشاركة في الانتخابات العامة والمقرَّرة في الثامن من شهر تشرين الأول المقبل، وقد أبدت الحركة تجاوبها في هذا الإطار.
في هذا الوقت، يستعد فريق أميركي متخصّص لوضع خريطة طريق جديدة لإستيلاد حلّ الدولتين، وسيعمد أوباما للإعلان عن هذه الخريطة قبل خروجه من البيت الابيض لينهي عهده ولو بالإعلان عن التأسيس لحلٍّ شرق أوسطي.
ويتردد أنه يصر على أن يترافق ذلك مع وضع أسس التسوية في سوريا بعدما حققت روسيا إنجازات مهمة في الكواليس. ومن هنا ربما يأتي تفاؤل كثيرين ومنهم رئيس مجلس النواب نبيه برّي بإنتخاب رئيس للجمهورية قبل نهاية السنة، ذلك أنّ المدخل الناجح للتسوية في سوريا لا بد أن يكون من لبنان.
لكنّ رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط الذي يراقب الاتجاه الذي رست عليه الأمور في سوريا ردّد بحسرة أمام أحد زوّاره «أنّ سذاجة وأنانية البعض سمحا بعودة شيء من التأثير السوري في الاستحقاقات اللبنانية ولو بمقدار محدود».