لا يختلف أيٌّ من المراقبين السياسيّين على أنّ العام الحالي سيكون عام تركيا بامتياز، خصوصاً أنّ كلّ المعطيات السياسية والأمنيّة والاقتصادية تشير بشكل واضح الى أنّ التغييرات التي عصَفت بالمنطقة وبدّلتها تبديلاً كبيراً ستتجرّعها تركيا بشكل أو بآخر… والمؤشرات الى هذه التطورات واضحة ولو رفَض النظام القابض على السلطة فيها الاعتراف بها، خصوصاً أنّ النكران مرض يُعاني منه كلّ حاكم لا يقبل تبدّل الوقائع والمعطيات ويُنكرها الى أن تبدّله… فكيف إذا كان هذا الحاكم لديه طموح كبير وخطير كالرئيس التركي رجب طيب أردوغان ويرفض، بل لا يريد، أن يتعلّم من تجارب الزعماء الذين سبَقوه ومرّت بلادهم بالظروف نفسها التي تعرفها تركيا الدولة والنظام.
صحيح أنّ أردوغان أفشَل محاولة انقلاب 15 تموز المنصرم، إلّا أنّ تداعيات هذه المحاولة كانت كبيرة على حكمه، خصوصاً أنّ تصرّفاته الانتقامية تَشي بأنه استفاد منه ليعزّز قبضته الشخصية على كلّ مفاصل السلطة خصوصاً الإدارة والجيش والقضاء، إضافة الى فرضه تعديلات قانونية ودستورية… ما يُقوّي بالطبع نظامه ولكنّه يضعف حكماً تركيا كدولة.
لذلك فإنّ أردوغان يسابق الوقت ليُثبّت سلطته ويؤبّدها، وكغيره يستعمل الطرق الديموقراطية كوسيلة ليُحقّق طموحاته مستفيداً من خلوّ الساحة من منافسين حقيقيّين وانقسامهم، كما من الثغرات في الآليات الديموقراطية وتسخيرها لمصلحته.
والدليل على ذلك استلام البرلمان التركي اليوم مشروع تعديل دستوري يهدف إلى تعزيز سلطات رئيس الدولة بعدما أقرّته اللجنة الدستورية في البرلمان التركي، ومن المتوقع أن تُقرّ الهيئة العامة هذا التعديل الدستوري المثير للجدل نظراً لامتلاك حزب أردوغان، «العدالة والتنمية»، وحلفائه الغالبية المطلوبة، على أن ينظّم استفتاء شعبي حوله بعد 60 يوماً من إقراره من قبل البرلمان.
وينصّ المشروع على نقل السلطة التنفيذية من رئيس الحكومة إلى رئيس الجمهورية، فيحقّ لهذا الأخير تعيين وإقالة الوزراء ويكون له نواب يساعدونه كما يمكنه إصدار مراسيم ملزمة، ولا يلزم الرئيس بقطع صلاته بحزبه السياسي عند انتخابه رئيساً… وفي حال إقرار هذا التعديل ستدخل تركيا نادي الدول التي تعتمد النظام الرئاسي كوسيلة حكم، ويُتيح للرئيس رجب طيب أردوغان الاستمرار في الرئاسة حتى العام 2029، أي الى ما بعد انتهاء خطته في العام 2023 الذي يصادف الذكرى المئوية الأولى لإعلان الجمهورية والتي يسعى من خلالها بحسب مزاعمه لجعل تركيا ضمن الدول الأولى عالمياً في المجالات كافة.
في طريقه لتحقيق طموحه، أيقظ أردوغان ومعاونوه كلّ المشاكل التركية، فإذا بها تطفو مجتمعة على سطح الماء، فأمن المدن التركية يهتزّ يومياً حتى إنّ هذا الاهتزاز أصاب الاسبوع الماضي مدينة ازمير البعيدة نسبياً من الحدود… وتركيا التي كانت ممراً للإرهابيّين الى سوريا اصبحت مقراً ومركزاً لعملياتهم، وتبنّي «داعش» عملية اطلاق النار ليلة راس السنة في ملهى «رينا» وسط اسطنبول خير دليل على ذلك… إضافة الى المشكلة الكردية التي تُثير هواجس أردوغان والتي لم تؤدِّ فقط الى ابتعاد تركيا عن الولايات المتحدة الاميركية حليفتها التقليدية، وإنما الى تورّطها في المستنقعين العراقي والسوري عبر إرسال قوات من الجيش الى هذين البلدين.
والأخطر من كلّ ذلك اهتزاز الوحدة الداخلية مع العنف غير المسبوق الممارَس من الجيش التركي في مناطق الأكراد، ما أيقَظ الشعور الكردي وعرَّض وحدة البلاد الى خطر. علماً بأنّ أردوغان يُواجه معارضة من العلمانيّين ومعظم رجال الإعلام من دون أن ننسى رفض العلويّين الأتراك لطريقة حكمه.
كلّ هذه التطوّرات الداخلية، وغيرها خارجية، ستُسرّع من دخول تركيا في نفق الأزمات وهو نفق طويل جداً قد يبتدأ مع طموحات أردوغان وينتهي بتركيا جديدة لم نعرفها من قبل.