بغض النظر عمّا إذا كانت الطائرة المقاتلة الروسية اخترقت الأجواء التركية أم لا، هناك رسالة أرادت أنقره توجيهها الى كلّ من يعنيه الأمر. فحوى الرسالة أنّها موجودة في سوريا وأنّها شريك في تحديد مستقبلها أيضاً.
أسقطت تركيا طائرة «سوخوي« روسية. كان سقوطها في الأراضي السورية. هناك طيّار احتجز وآخر قتل. هذا يعني بكلّ بساطة أن تركيا موجودة أيضاً في سوريا. هل كان رجب طيب إردوغان يردّ على قول علي خامنئي وفلاديمير بوتين بعد اجتماعهما في طهران أن وجهة نظرهما «موحّدة« حيال سوريا ويرفضان «أيّ محاولات خارجية لإملاء فرضيات في شأن تسوية في سوريا«؟
المفارقة أن لتركيا حدوداً طويلة، بل طويلة جداً، مع سوريا، فيما هناك تدخل مباشر لروسيا وإيران في داخل سوريا، علماً أن ليس لأيّ من البلدين تماس مباشر مع الأراضي السورية. كلّ ما فعلته تركيا أنّها أبلغت الجانبين أنّ ليس في الإمكان تقرير مصير سوريا ومستقبلها في غيابها. إذا كان لا بد من تقسيم لسوريا، فهي مصرّة على أن تكون لديها حصّتها السورية.
يتجاوز إسقاط المقاتلة الروسية قضية مستقبل بشّار الأسد والنظام. هذا المستقبل صار محسوماً. انتهى بشّار وانتهى النظام الذي تسعى روسيا إلى المحافظة على جزء منه، خصوصاً المؤسسة العسكرية التي تعتقد أنّها شريك في صنعها.
جاء الآن وقت تقسيم سوريا وفق مصالح محددة تأخذ في الاعتبار الوجود التركي أيضاً. بات مفهوماً ماذا تريد إيران، كذلك معروف ماذا يهمّ روسيا. كذلك، جاء الآن وقت دخول تركيا على الخط لتأكيد أنّها لا يمكن أن تقبل تقسيم سوريا بين إيران وروسيا، وأنّها ترفض وضعها أمام أمر واقع تفرضه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران والقوّة العسكرية الروسية.
لن تستسلم تركيا للمنطق الروسي والإيراني القائل إن الأولوية للحرب على «داعش«. صحيح أن «داعش« يمثل تهديداً للأمن والسلام الدوليين وأنّه تنظيم إرهابي من الدرجة الأولى استفاد الى حدّ كبير في مرحلة معيّنة من الحدود التركية، لكن الصحيح أيضاً أنّ ليس في الإمكان الفصل بين «داعش« والنظام السوري. لم يكن لـ«داعش« أن ينمو وأن يتمدد لولا النظام السوري ولولا ما فعلته إيران في سوريا والعراق. لم يكن لـ«داعش« أن يسيطر على كلّ هذه المساحة من الأراضي السورية والعراقية لولا النظام السوري ولولا السياسة الإيرانية في هذين البلدين العربيين، أقلّه نظرياً.
تدخّلت إيران في سوريا من منطلق مذهبي بحت. لم ترسل «حزب الله« وميليشيات عراقية وأفغانية وباكستانية لقتال الشعب السوري، إلّا تحت شعارات مذهبية مثل حماية المقامات الشيعية، على رأسها تلك القريبة من دمشق.
وفي العراق، عملت إيران كلّ شيء من أجل القيام بعمليات تطهير ذات طابع مذهبي، خصوصاً في بغداد. جاء بعد ذلك تشكيل «الحشد الشعبي« من أجل قتال السنّة العرب وتهجيرهم من مناطق معيّنة وذلك تحت غطاء الحرب على «داعش«.
ما فعلته إيران بالتواطؤ مع النظام السوري أدّى الى خلق حواضن لـ«داعش« في كلّ من سوريا والعراق. كان الهدف واضحاً كلّ الوضوح في كلّ وقت من الأوقات. كان الهدف محاولة إنقاذ النظام السوري بحجة أن الخيار بينه وبين «داعش« وأن بشّار الأسد يظلّ أفضل من «داعش«. كانت النتيجة أنّ المستفيد الأوّل من هذه الممارسات الإيرانية «داعش« ولا أحد آخر غير «داعش«.
الملفت أن روسيا، ركّزت، منذ باشرت تدخلها المباشر في سوريا، على الفصائل السورية التي تقاتل النظام. كانت الضربات الموجّهة الى «داعش« قليلة جداً. لم تحدّ من نشاط «داعش« بأي شكل، بل زاد هذا النشاط منذ بدء الحملة العسكرية الروسية وشمل بين ما شمل تنفيذ عمليات إرهابية طالت الطائرة الروسية التي سقطت فوق سيناء وبرج البراجنة في ضاحية بيروت وباريس…
هناك بكلّ بساطة سياسة تركية أكثر هجومية، خصوصاً بعد الانتصار الذي حقّقه رجب طيب إردوغان في الانتخابات الأخيرة. كان الرهانان الإيراني والروسي، كذلك رهان بشّار الأسد، على أن إردوغان سيخرج ضعيفاً من هذه الانتخابات. على روسيا وإيران والنظام السوري أخذ علم بأنّ إردوغان المطالب برحيل بشّار الأسد أوّلاً أصبح أقوى. جاء إسقاط الطائرة الروسية لتذكير هذه الأطراف بأن ليس في الإمكان تجاهل تركيا بعد الآن. إذا كان من تقاسم لسوريا، فإن الشمال السوري تركي لا أكثر ولا أقل. حلب مدينة تركية، كذلك المناطق المحيطة بها.
يدلّ ما حصل، خصوصاً بعد تذكير تركيا روسيا وإيران، بأنّها عضو مهمّ في حلف الأطلسي (ناتو) إلا أنّه لا يمكن البحث في مستقبل سوريا في غياب تركيا وذلك بغض النظر عن الموقف الأميركي المائع.
أكّدت إيران وجودها في سوريا عبر خبرائها الذين أرسلتهم لنجدة بشّار الأسد وعبر ميليشياتها المذهبية. كذلك فعلت روسيا عبر طائراتها وجنودها المنتشرين في اللاذقية ومحيطها. تؤكد تركيا وجودها عبر إسقاطها الطائرة الروسية. تؤكّد أيضاً أنهّا لن تسمح بلعب ورقة أكراد سوريا ضدّها.
في الواقع أثبتت تركيا، بإسقاط الطائرة الروسية، أنّها أيضاً لاعب في سوريا وشريك في تقرير مصيرها، بغض النظر عمّا إذا كانت الإدارة الأميركية متواطئة مع موسكو وطهران أم لا. فوق ذلك كلّه، بات على روسيا أن تأخذ في الاعتبار أن لديها ما يزيد على عشرين مليون مسلم في أراضيها وأنّ معظم هؤلاء على علاقة ما بتركيا، عرقياً ومذهبياً.
هناك بكلّ بساطة مرحلة جديدة دخلتها الأزمة السورية. قد يكون عنوان هذه المرحلة كيف سيكون تقسيم سوريا بعد سقوط النظام هذا السقوط المريع الذي أجّله التدخل العسكري الروسي، لكنّه لم يستطع الحؤول دونه؟