IMLebanon

تركيا وسورية وإيران

وظيفة الانتخابات في النظام الديموقراطي هي تجديد الحياة السياسية، وهذا لا يتحقق في بلدان كثيرة بينها تركيا، إذ يعتمد الحزب الحاكم وسائل ترغيب وترهيب تسمح بتجديد إدارته السياسية والاقتصادية بواسطة غالبية المقترعين. لقد مضى زهو الديموقراطية وانقضى، ولن نشهد ما يشبه الحدث الديموقراطي الكبير في بريطانيا، حين انتصر ونستون تشرشل في الحرب العالمية الثانية وما لبث ان تقبّل الهزيمة في الانتخابات تاركاً مقعد رئاسة الحكومة لشخص آخر.

رجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو لا يشبهان تشرشل كما لا تشبه تركيا بريطانيا، فضلاً عن أننا نشهد شيخوخة الديموقراطية في عالمنا، لكنها تبقى، فقط لعدم وجود بديل منها في اجتماعنا السياسي.

وبقدر فرح حزب «العدالة والتنمية» بتفويض غالبية الناخبين انفراده بالحكم، فإن رئيسه أحمد داود أوغلو أحسّ بوطأة المسؤولية متخوّفاً ضمناً من ترسُّخ الاستقطاب في تركيا بين إسلاميين وأكراد وعلمانيين، لذلك ركّز خطابه على الداخل في نبرة تصالحية تمحو خطاب الحزب الانتخابي المعادي للأحزاب الأخرى، وتعهد عدم استبعاد أحد (من الدولة أم من المجتمع؟ ما دام الاستبعاد قائماً من الحكم). والتصالح تعبير جديد في خطاب «العدالة والتنمية» يهدف إلى تكريس الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان على حافة الانفراط نتيجة دعاوى الشك والتخوين، ونتيجة فعل الاستبعاد الذي اشتهر به رجب طيب أردوغان… وما دام «العدالة والتنمية» هو الحاكم وحيداً فلا داعي لمشكلات مع الأكراد والعلمانيين، وبالتالي سيتسع صدره لهم ويغض الطرف عن مخالفاتهم المحدودة مقدّماً نفسه كحزب راعٍ لجميع المواطنين في تركيا.

ولعل تسديد ضربتين تركيتين لـ «داعش» أثناء الانتخابات هو رسالة لهذا التنظيم الذي سهلت تركيا ولادته ونموّه، بأن لا يحاول التطاول على راعيه وأن يلتزم حدّه السوري. وهنا، في الساحة السورية بالذات، يبدو الصراع الذي تتداخل فيه قوى محلية وإقليمية وعالمية، الأكثر تأثيراً في الداخل التركي، لذلك تحتفظ أنقرة بمضمون موقفها من سورية وإن اضطرت الى بعض التغيير الشكلي. ويلاحظ المراقبون تنامياً، وإن بطيئاً، في التنسيق مع المملكة العربية السعودية في شأن الملف السوري، لكن التعاون الأساسي يبقى مع دولة قطر، مع تعديلات تقضي بالتعاون مع «جبهة النصرة» وتقليم أظافر «داعش» الذي يكاد ضربه يصبح هدفاً مشتركاً للاعبين في الميدان السوري. أليس لافتاً نداء أيمن الظواهري داعياً للتحالف بين «النصرة» و «داعش»، فكأنه يبحث عن مكان آمن لخليفة «داعش» في عباءة «النصرة» – «القاعدة».

يعرف أحمد داود أوغلو أن ما بعد فيينا يختلف عما قبلها، لذلك تعمّد عدم التركيز على مطلب منطقة آمنة في شمال سورية. وهو يراقب باهتمام صورة أميركا الجديدة كوسيط، إلى حدّ ما، في الشأن السوري، ويقرأ جيداً الدعوة الأميركية لمشاركة إيران في مؤتمر فيينا الذي سيعقد جلسته الثانية شبه الحاسمة في عشرينات الشهر الجاري، ذلك أن إيران وتركيا ستكونان مدعوتين في المؤتمر إلى الكف عن التدخُّل في الشأن السوري وإلى سحب جماعاتهما العسكرية من البلد المنكوب: إيران (الخبراء وفرق «حزب الله» اللبناني ومقاتلون من العراق وأفغانستان) وتركيا («جبهة النصرة» وأخواتها).

ولن تتغير سياسة تركيا ومعها سياسة إيران تجاه الأزمة السورية، إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي، يتردد أن واشنطن وموسكو تعدّان له بهدوء، بحيث يصدر مصحوباً بآلية تنفيذ مُلزمة. وبالتوازي بدأ إعداد قاموس للغة مشتركة بين الحكومة السورية ومعارضيها والتمرين على استخدام هذه اللغة في لقاءات تبدأ في موسكو وربما تتبلور في واشنطن.

في حرب سورية التي تفاقمت حتى وصلت إلى العالمية، تربح الدول الكبرى، وتتحطم دول هيأت نفسها لدور الضحية، ويُجرى استخدام دول احترفت رؤية عظمتها في مرايا مكبّرة.