شرطٌ جديد أضافه مستشارُ الأمن القومي الأميركي جون بولتون لانسحابِ قوات بلاده من سوريا يُعيد خلط أوراق هذا الانسحاب وقد يُبطئ وتيرتَه لشهور. فبولتون الذي قام بزيارة إلى الشرق الأوسط شملت إسرائيل وتركيا، أكد أنه يجب أن توافق تركيا على حماية الأكراد المتحالفين مع الولايات المتحدة كشرطٍ أساس للانسحاب، وبذلك تكون واشنطن كبحت جماحَ أنقرة الهادفة إلى سحق الأكراد تحت شعار الحرب على «داعش».
هذا الشرط متعلّق بتركيا أولاً وأخيراً، وهي عرّابة الانسحاب الأميركي «المفاجئ» الذي اتّخذ ترامب قرارَه إثر محادثة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في الرابع عشر من كانون الأول الماضي.
فشرط ترامب للانسحاب آنذاك، تبلور بسؤاله لإردوغان بحسب محضر المكالمة: «هل ستتخلّصون من فلول داعش إذا ما انسحبنا من سوريا؟». فردّ عليه إردوغان بالقول: «سنتولّى الأمر»، مذكّراً نظيرَه الأميركي بأنه سبق لتركيا أن «قضت على 4 آلاف عنصر» من «داعش» خلال عملية «درع الفرات»، التي شنّتها عام 2016.
ويبدو أنّ ترامب سُعِد بهذا الجواب ووجد فيه مخرَجاً لسحب قواته من سوريا التي وصفها بأنها «رملٌ وموت»، وأمرَ بـ«بدء العمل» على الانسحاب، وسط تأكيدات أميركية بأنه «انسحابٌ كامل» سيحصل «في أسرع وقت». إلّا أنّ ترامب أهمل النوايا التركية المبيّتة، التي جعلت قرار انسحابه غيرَ قابل للتطبيق السريع لا بل هشّاً.
فلم يمضِ على شهر العسل الأميركي- التركي سوى بضعة أيام حتّى بدأت العروس التركية بكشف ما تصبو إليه. تحت شعار محاربة «داعش» هي تريد سحقَ الميليشيات الكردية في طريقها، وهم حلفاء أميركا في حربها على التنظيم المتطرّف. وسَكِرَ الأتراك بخبر الانسحاب الأميركي وترك الساحة السورية لهم وشرعوا يهدّدون الأكراد بالقضاء عليهم كما داعش.
ذلك في حين يؤمن الغرب بدبلوماسيّيه وسياسيّيه أنّ «هزيمة داعش تقتضى مساعدة القوّة العسكرية الوحيدة التى أحرزت انتصارات حاسمة ضد داعش، والقوى الوحيدة التى تهدّده»، وهي «قوات سوريا الديمقراطية» المكوّنة في معظمها من «وحدات حماية الشعب الكردية» السورية المسلّحة، المتفرِّعة من حزب «العمال الكردستاني»، الذي تعتبره تركيا إرهابياً إذ تخشى من بنائه دولة كردية على أرضها وحدودها.
فاستفاق ترامب من حلمه تحت الضغوط الغربية المحذِّرة من انسحابه، ليدركَ أنّ أهدافه تختلف عن الأهداف التركية، وأنّ تركيا تلعب على وتر محاربة «داعش» لتصل إلى الأكراد، هدفها الأساسي، خصوصاً أنّه لا يخفى على أحد أنّ عملية «درع الفرات» التي ذكّر بها إردوغان نظيره ترامب، هدفت في العلن إلى ضرب «داعش»، إذ استخدمت أنقرة هذه الذريعة لتحقيق هدفها الأبعد وهو تضييق الخناق على الميليشيات الكردية.
أهداف أنقرة واضحة قبل بدء أيِّ عملية وعند الاعلان عنها: الجيش التركي يشنّ عمليّةً للقضاء على «المنظمات الإرهابية» التي لا تقتصر على «داعش»، بل تشمل أساساً الأكراد الذي يقضّون مضاجع أنقرة أكثر من «داعش».
وبدا جليّاً منذ اللحظات الأولى لإعلان ترامب قرارَ الانسحاب في التاسع عشر من كانون الأول 2018 أنّ الحربَ في شمال سوريا تتحوّل من حربٍ يقودها التحالف الدولي والفصائل الكردية التي يدرّبها ضد «داعش»، إلى حربٍ تركية ضد الأكراد بعدما سيطر هؤلاء خلال الأشهر والسنوات الفائتة على أكبر بقعة جغرافية خاضعة لسيطرة «داعش» وهي منطقة شرق الفرات مع منبج.
وبدأت التساؤلات تُطرح حول ما إذا كانت تركيا ستستهدف «داعش» أصلاً أم أنها ستدعمه وتقوّيه في حربه ضد الأكراد على قاعدة أنّ عدوَّ عدوّي هو صديقي.
ذلك في حين لم تقلّ يوماً الأدلّة التي تشير إلى مساعدة تركيا لكل من تنظيمَي «داعش» و«جبهة النصرة»، مدعومةً بتقارير تُثبت أنّ تركيا ضالعة فى تسليح المتطرّفين وتزويدهم بالأسلحة والمعدّات العسكرية عبر حدودها. حتّى ذهب بعض المراقبين إلى التأكيد بأنّ الأراضي التركية شكلت ممرّاً لهؤلاء «الإرهابيين» إلى الشمال السوري والعراق، وكذلك إلى أوروبا، وأنّ تركيا فرشت لهم السجادَ الأحمر ومنحتهم تسهيلاتِ الإزدهار، وسبلَ الاستيلاء على مساحات شاسعة في سوريا والعراق وطول اليد في شتّى دول العالم الغربي.
وبالتالي فالانسحابُ الأميركي وتسليم الشمال السوري للأتراك تحت ذريعة القضاء على «داعش» كان سيشكّل أكبرَ خدمة لـ«داعش»، وأيضاً ضربةً رابحة لإردوغان تخوّله القضاء على أعدائه في الخارج وزيادة مكاسبه السياسية في الداخل.
وفي المقابل هو «طعنة في الظهر وخيانة لدماء آلاف المقاتلين» الأكراد، على حدّ تعبير «قوات سوريا الديمقراطية»، ما دفعها إلى إعادة حساباتها والمباشرة بالتقارب مع دمشق، خوفاً من تهديدات تركيا المجاورة.
ويبدو أنّ هذا الواقع دفع ترامب نفسه إلى الترويّ، وإلى تغيير وتيرة الانسحاب من «سريعة» إلى «حذِرة»، مؤكداً في الوقت عينه أنّ موقفه لم يتغيّر في شأن الخروج من سوريا، ولكنه ينتظر تقديم وزارة الدفاع خطةً تضمن «الانسحاب الآمن»، خصوصاً أنّ المعركة ضد «داعش» لم تنتهِ بعد.