IMLebanon

لن تسمح تركيا لأردوغان بتدمير “الحلم التركي”

هل أجازف بالتكرار الممل لهذا الرأي اليوم: التجربة التركية العلمانية هي فرصتنا الحالية الوحيدة كمسلمين في بناء علاقة ناجحة بين الإسلام والحداثة. هناك في تركيا يتقرّر سلباً أو إيجاباً مصير العلاقة.

لا نجد هذه الفرصة حاليا في أي بلد مسلم آخر في قلب العالم المسلم. لا إيران ولا مصر ولا المغرب ولا أي بلد مسلم كبير آخر طبعاً رغم كل الإمكانات التي تتمتع بها هذه الدول المهمة. كانت سابقا وربما عادت مستقبلا في بعضها أو كلها. ولكن المشهد اليوم يجعل التجربة التركية هي المفصل وتمثل بمعنى ما صدارة تحديات العالم المسلم. أعني بذلك المدى الاستراتيجي لمواجهة معضلات عصرنا. وحتى مع كل النجاحات الكبيرة التي تحققها دولتان مثل ماليزيا ونسبيا إندونيسيا فإن تلك التجربتين تنتميان إلى إسلام هو تحت تأثير حوض الحضارة الصينية أساسا، وبشكل أعم حوض الثقافتين الصينية الهندية. كذلك على كل الأهمية التي قد تكون لإيران في رسم صورة الشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي على المستوى السياسي الصرف المدعوم برهان غربي وأميركي على غنى المجتمع المدني الإيراني، لا النظام، فإنه حاليا ترتسم في تركيا الاحتمالات الأكثر مصيرية وبالتالي خطورةً لمستقبل علاقة الاسلام بالحداثة. احتمالات الفشل كما النجاح.

لكن في اللحظة هذه هناك شخص واحد تتركّز عليه الأنظار النقدية: الرئيس رجب طيِّب أردوغان وعبره تجربة “حزب العدالة والتنمية”.

رجب طيِّب أردوغان في ما آل إليه من تسلُّطٍ (سجنُ الصحافيين والمثقفين وتصفية القضاء والشرطة وقمع الحركات الشبابية وتعزيز مصالح ضيقة) وتَمَسُّكٍ بالحكم بأي ثمن (شن حرب على الأكراد باسم الوطنية التركية والسعي لأخونة الدولة والتمييز المذهبي) ومن سياسات راديكالية خطيرة (دعم “داعش” وما يشبهها) يدمِّر “النموذج التركي”.

طبعاً، وأقولها مع كثيرين داخل تركيا وخارجها أن الرجل بَلَفَنا في السابق بالمعنى الحرفي للكلمة. لكن هذه الخدعة لم تكن، للدقة والموضوعية، من دون أساس. فقد قاد مع حزبه عمليتين ناجحتين كبيرتين:

الأولى نزع وصاية الجيش على الحياة السياسية.

الثانية سياسة اقتصادية حققت إنجازاتٍ بنيويةً في أكثر من مستوى.

الأولى تبيّن بالنتيجة أنها استبدلت دولة الوصاية العسكرية بدولة بوليسية خطيرة تعيشها تركيا حاليا.

الثانية التي كما يقول خبراء أتراك وضعت أسسها شخصية من خارج الإسلام السياسي هي وزير الاقتصاد التركي السابق وأحد نواب رئيس البنك الدولي الأسبق كمال درويش في نهاية التسعينات من القرن المنصرم، تبنّاها رجب طيِّب أردوغان في ما بعد اعتبارا من العام 2002… هذه السياسة الاقتصادية تبدو الآن مهددة أكثر فأكثر بسبب العزلة الدولية والإقليمية المتزايدة لسياسة أردوغان. والمفارقة أن بين أصدقاء أردوغان الكبار الباقين تقف إيران نظام رجال الدين في المقدمة وبنسبة ثبات أكثر من المملكة العربية السعودية! بينما خسر “السلطان” الجديد أردوغان روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. والباقي الآن لدى هذه الدول موقع تركيا الأطلسي والاقتصادي وليس موقع أردوغان الذي يتعرّض أكثر فأكثر إلى إهانات بروتوكولية تسيئ لتركيا بسببه. وإلى نقد داخلي جعل محامي أردوغان يرفعون حوالي ألفي دعوى قدح وذم على أشخاص أتراك ناشطين في الشأن العام.

بدل أن يأخذ أردوغان تركيا، كما اعتقدنا سابقا، أكثر فأكثر نحو المزيد من التحديث السياسي أعاد تركيا إلى نمط خبرناه جيداً في العالم العربي. النمط الديكتاتوري الذي يجعل “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” المفتعلة غالبا لقمع أي صوت داخلي معارض. هكذا الآن يستخدم أردوغان الحرب مع الأكراد، أكراد تركيا وسوريا، لتخوين كل من يقف ضد سياسته هذه. بلغ به الأمر حدَّ الهذيان عندما قال تعليقا على عريضة وقعها مئات من الأكاديميين والناشطين الأتراك والغربيين، بينهم نعوم تشومسكي: هؤلاء ليسوا أكاديميين ومثقفين وصحافيين… هؤلاء خونة ونصابون.

نعرف ماذا يريد هذا النوع من الخطاب السياسي الذي أكرر ولا حاجة للتكرار أننا خبرناه جيدا في العالم العربي ونشاهد اليوم ما أدى إليه من كوارث وتخلف.

ما العمل مع هذا الانحراف الذي بات يؤذي بل يهدد إذا لم يدمِّر “الحلم التركي” وجهود تسعة عقود، منذ تأسيس الجمهورية، لجعله نموذجا يستجير به كل العالم المسلم الشرق أوسطي والإفريقي القابع يوما بعد يوم في التدهور والتفكك وحتى الانحلال في أجزاء كثيرة منه.

كثيرون من داخل تركيا وخارجها يجدون أنفسهم في حالة قلق حقيقي على النموذج التركي الذي ساهمت بصنعه عدة أجيال وليس جيلا واحد. فالتحديث السياسي التركي فرصة ولكن ليس راسخا بعد. والأمل، رغم ما يُتهم به الديموقراطيون الأتراك من كسل حاليا أو حسب تعبير الزميلة نوراي مورت في “حريات” مؤخرا “الديموقرطيون الكسالى” هو أن تتمكن تركيا من تجاوز مرحلة أردوغان دون خسائر كارثية على تركيا وعلى منارتها ومنارة العالم المسلم اسطنبول المجبولة بتاريخ حوالي قرنين من ملحمة التكيف – الصراع مع وبين الإسلام والحداثة.