Site icon IMLebanon

تركيا مثل لا مثال

لم يأت كلام رئيس البرلمان التركي اسماعيل كهرمان من فراغ، الداعي الى استبدال هوية الدولة العلمانية بحسب الدستور بالهوية الاسلامية. سواء كان الكلام منسقا او متواطئا مع الرئيس رجب طيب اردوغان، فانه يُنبئ أن موعد القطاف قد اقترب. فمنذ 2002 وحزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة اردوغان يسعى الى سلطة وصلت الى حدّ التسلط. البداية كانت مع تحييد الجيش وتعطيل قدرته على انتزاع السلطة، مثلما فعل في مراحل سابقة. وبعد الجيش جاء دور القضاء، تبعه الاعلام، ولم يسلَم رفاق الدرب داخل الحزب وخارجه من الاستهداف، وآخرهم رئيس الحكومة داود اوغلو الذي تمت ازاحته.

ولمزيد من النفوذ، جرت انتخابات نيابية مبكرة انتجت برلمانا بالاكثرية المطلوبة لتعديل الدستور والنظام السياسي. مشروع اردوغان بشقين: سلطوي، محوره الطموح الشخصي، وايديولوجي، محوره الدين. والشقان متلازمان. وكما في اي مشروع سلطوي، لا بد من عدو يهدّد الامة والكيان. وهو موجود في الحالة التركية: العدو «الوطني» يتمثل بالاكراد و «الشرعي» بالعلمانية.

منذ تسلّمه الحكم، سلك الرئيس التركي طريقا واحدا وهادفا، واستند في البداية الى الاقتصاد مع اطلاق مشروع ناجح ليوظفه في مشروع السلطة. واذا كان منسجما مع توجهاته السياسية والدينية، فلا بدّ ان يصل به الامر الى الانقلاب على الدولة العلمانية التي ارساها مصطفى كمال (اتاتورك)، نقيض اردوغان في الخلفية السياسية والفكرية والحقبة التاريخية.

بنى اتاتورك الدولة التركية الحديثة على انقاض الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى، بينما اردوغان يطمح الى تركيا اسلامية، مجتمعا، ودولة اذا امكن. اتاتورك، القائد العسكري، والجيش أداته في السلطة. وبما أن الجيش كان تاريخيا حارس النظام العلماني المنفتح على الغرب، فان تحييده يفتح الطريق لاستهداف النظام العلماني. استعمل اردوغان القوة الناعمة لأسلمة المجتمع، ولن يكون مستغربا اذا خطا خطوة مماثلة في اتجاه الدولة. واذا لم يوقفه احد، فسيُكمل بنيان الدولة السلطوية الاسلامية. وهنا نصل الى دور المجتمع في ردّ فعله على هذه المتغيرات.

للعلمانية في تركيا جذور وحضور يتجاوز الحالة العلمانية في تونس، او في اية دولة مسلمة اخرى. لعقود كانت تركيا مثالا يحتذى لعيش مشترك بين العلمانية والاسلام. وبنظر كثر في تركيا وخارجها، جسّدت تركيا النموذج العصري المتقدم للعالم الاسلامي. هكذ رأى، مثلا، شاه ايران في الثلاثينيات تركيا مثالا يحتذى، ومثله الحبيب بورقيبه في تونس. في المقابل، الاخوان المسلمون وغيرهم من الاسلاميين يرفضون العلمانية، ومنها النموذج التركي، وقد استاؤوا من كلام اردوغان حول العلمانية خلال زيارته لمصر في 2011.

السياسة الداخلية التركية غير منفصلة عن الشأن الخارجي، نظرا لمحورية الدور التركي تجاه اوروبا وللعلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة، وتركيا على حدود روسيا وايران والعالم العربي. واشنطن بعيدة جغرافيا، واهتمامها بتركيا يمرّ عبر الحلف الاطلسي وقواعده العسكرية المنتشرة في البلاد. اوروبا معنية مباشرة بمآل الاوضاع الداخلية في تركيا لاسباب عديدة، آخرها ازمة اللاجئين الذين اجتاحوا دول الاتحاد الاوروبي عبر تركيا والتنظيمات السلفية المتطرفة التي تدعمها انقرة، اضافة الى الجاليات التركية الموجودة بأعداد كبيرة في اوروبا، خصوصا في ألمانيا. علاقة تركيا مع ايران لن تتأثر، بينما العلاقة مع روسيا تزداد توترا، وكذلك مع مصر ودول عربية تفضّل التعامل مع تركيا اسلامية بحدود، لا اخوانية.

انه صراع هويات، وكأن تركيا عادت الى بدايات القومية التركية في زمن السلطان عبد الحميد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبمعزل عن مآل الحراك السياسي الداخلي، فان مستقبل تركيا العلمانية التي اسسها اتاتورك على المحك. لن تعتمد تركيا نموذج الطالبان، بل قد يتعمق الشرخ الداخلي في اتجاه «الافغنة». انه اسلام سياسي بنكهة علمانية ملطفة، عثماني في خلفيته التاريخية، تركي في غاياته الآنية. والاحزاب الاسلامية عادة ما تتشدّد في الداخل وتهادن مع الخارج. وتجربة الاخوان المسلمين في مصر خير دليل لمن يهمه الامر.

انها ليست المرة الاولى التي يصل فيها حزب اسلامي الى السلطة في تركيا. حزب الرفاه بقيادة نجم الدين اربكان حكم لفترة وجيزة في التسعينيات، الا ان لحزب العدالة والتنمية ولقائده طموحا جارفا، وظروفا لم تكن متاحة لأسلافه لاحداث الانقلاب الجذري في الاتجاه المطلوب وفي التوقيت الملائم.