لو لم تُصدِرْ «حركة أحرار الشام الإسلامية» بيانها الذي أصدرته في الخامس من أغسطس (آب) الحالي، وقالت فيه إنها أجرت مفاوضات فاشلة في تركيا مع مندوبين إيرانيين ومندوبين من حزب الله اللبناني للتوصل إلى تسوية في بلدة الزبداني وقريتي كُفْريا والفوعة، لما صدَّق أتباع بشار الأسد وأنصاره والمنحازون إليه طائفيًا ومصلحيًا أنَّ هذا قد جرى بالفعل، وأنَّ نظامًا يدَّعي أنه «الشرعي» الوحيد في «القطر العربي السوري»!! من الممكن أن يقبل بأن تفاوض الاستخبارات الإيرانية تنظيمًا سوريًا وإنْ كان معارضًا ولا يعترف به نيابة عنه في شأنٍ يعتبر مسألة سورية داخلية لا يحق لأي جهة خارجية التدخل فيها.
ثم ولقد كان من المفترض أنْ ترفض هذه الحركة (حركة أحرار الشام الإسلامية) التفاوض مع جهة خارجية هي إيران وهي حزب الله اللبناني، ليس على وقف لإطلاق النار في منطقة الزبداني وفقط، وإنما على قضايا سورية داخلية لا يجوز لغير السوريين التدخل فيها، كقضية التغييرات «الديموغرافية» المقترحة والتفريغ السكاني المتبادل على أسس مذهبية، هذه التغييرات التي يسود اعتقاد بأنها لو تمت، وإنها إن تتم سواءً في المستقبل القريب أو المستقبل البعيد، فإنها ستكون بداية «التقسيم».. بداية تقسيم سوريا، بالتأكيد. ثم وإن المفترض أنه لا جدال في أن هذه الخطوة لو أنها تمت سابقًا أو أنها ستتم لاحقًا فإنها ستكون أم الكبائر، وإنها ستكون أكبر خيانة وطنية وقومية عرفها التاريخ العربي القديم والمعاصر وأيضًا المستقبلي.
ويقينًا، فإنه لا يمكن تبرير هذا الذي جرى رغم أن مفاوضات تركيا المشار إليها الآنفة الذكر كان مصيرها الفشل، والتي هي وفي كل الحالات لا يمكن إلا أنْ تعني وتُفهم وتدلُّ على أن هذا النظام، نظام بشار الأسد، لم يعد موجودًا، وأنه خرج نهائيًا من دائرة القرارات المصيرية الحاسمة، وأن سوريا، الجمهورية العربية السورية، أصبحت دولة محتلة فعلا وبلا أي سيادة، وأن إيران غدت هي الوصي على هذا النظام العاجز الذي أخلى مكانه للآخرين المتدخلين من الخارج، تشاركها في هذه الوصاية روسيا، ويشاركها حتى حزب الله اللبناني الذي كان رئيسه قال في «تبجح» مقرف، ما كان على من يجلس على كرسي الرئاسة في القصر الجمهوري في دمشق أن يقبل به، إنه لولا تدخل حزبه في اللحظات الحاسمة لما استطاع «هذا النظام» الصمود ولو لثلاث ساعات فقط.
فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن هذا النظام ما دام الإيرانيون أصبحوا وكلاء له وأوصياء عليه فيجب أن يخرج نهائيًا من دائرة الحلول المتداولة المقترحة للأزمة السورية، وسواءً كانت هذه الحلول في إطار حل «جنيف 1» المعروف أو غيره، وهنا فإن ما يجب التذكير به أنَّ أعضاء الوفد السوري إلى «جنيف 2»، وليد المعلم وفيصل المقداد وبشار الجعفري وبثينة شعبان ومن كانوا معهم كمخبرين وخبراء، كانوا يوجدون في الاجتماعات التي عقدت بأجسادهم وبألسنتهم وحناجرهم فقط، وأنهم كانوا يلتزمون التزامًا صارمًا ولا ينطقون إلا بما كان تم تلقينهم به وما كان يقال لهم في «الاستراحات» الطارئة المتعددة والكثيرة.
لقد كان معروفًا منذ البدايات، أي منذ بداية هذه الأزمة المدمرة التي فرضها نظام بشار الأسد على سوريا والشعب السوري فرضًا، أنَّ القرارات الفعلية، السياسية والعسكرية، المتعلقة بهذه الأزمة لم تكن في القصر الجمهوري في دمشق، وإنما في حوزة الولي الفقيه وهيئة أركان الحرس الثوري في طهران. وحقيقة فإن هذه كانت مشكلة المشاكل، ولا تزال، فكل «الوسطاء»، وسطاء الشر والخير، كان عليهم أن يبحثوا عن الموقف والقرار الصحيح والخبر اليقين في إيران وفي موسكو، وكان مرورهم بالعاصمة السورية مجرد «مرور كرامٍ» ومن قبيل رفع العتب، وفي أفضل الأحوال من أجل «العلم والخبر».. وإلا ما معنى أن يقبل الرئيس السوري، الذي يعتبر نفسه منتخبًا ومفوضًا من غالبية الشعب السوري، بأن يتفاوض نيابة عنه في محادثات تركيا الآنفة ضباط الاستخبارات الإيرانية بمشاركة رمزية من قبل حزب الله اللبناني وعلى أساس مقولة: «إن سوريا هي لكل من يشارك في الدفاع عنها»؟!
وبالطبع وترجمة لهذا كله فإن موسكو المنخرطة في مفاوضات ومشاورات «ماراثونية» جدية لحل الأزمة السورية، والتي كانت استقبلت في إطار هذه المفاوضات والمشاورات كل الأطراف المعارضة ومن بينها وفد من الائتلاف الوطني السوري، قد اكتفت، كما يبدو، باستدعاء محمد جواد ظريف الذي وصل إلى موسكو يوم الاثنين الماضي، بعد زيارة «بروتوكولية» إلى بيروت ودمشق، لتُبْلغه بكل أو ببعض ما لديها من وجهات نظر، وبخاصة وجهات نظر الدول العربية المؤثرة والفاعلة، ولتطَّلع على ما عنده من معلومات ومن أفكار مستجدة وجديدة حول الموضوع السوري. وهنا فإن ما تجب الإشارة إليه هو أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان قد أدلى بتصريح، بعد لقاء وزير الخارجية الإيراني، لافت للنظر، أكد فيه على أن موقف روسيا تجاه ما يطرح من حلول لهذه الأزمة «لا يزال على ما هو عليه»، وهذا يؤشر على أنه قد يكون هناك خلاف بين الإيرانيين والروس بالنسبة لهذه المسألة التي يبدو أنها قد خرجت من يد نظام بشار وبصورة نهائية.
والمشكلة هنا هي أنه عندما يتخلى هذا النظام عن مسؤوليته وعن صلاحياته المفترضة التي ينص عليها «دستوره» للإيرانيين، الذين أصبحوا هُمْ منْ يفاوض المعارضة السورية ومنْ يقاتلها في الوقت نفسه، فكيف بالإمكان القبول بوجهة النظر الروسية والقائلة بالإبقاء عليه ولو بمثابة «شاهد ما شافش حاجة» في المرحلة الانتقالية المنصوص عليها في «جنيف 1»، وحيث أكد سيرغي لافروف في أحد تصريحاته الأخيرة على أنه، أي «جنيف 1»، سيكون مرجعية أي حل للأزمة السورية التي باتت هناك قناعة إقليمية ودولية بأنها استطالت أكثر من اللزوم وأنه لا بد من حلها وإيجاد نهاية عاجلة لها في أقرب فرصة ممكنة؟!
إنه لا يمكن أن تقبل المعارضة السورية، والمقصود هو المعارضة الواقعية والمعتدلة، الممثلة بـ«الائتلاف» وبمن حضروا مؤتمر القاهرة الأخير، وبالطبع بالجيش الحر والفصائل المماثلة الأخرى، بالإبقاء على بشار الأسد ولو كـ«شاهد ما شافش حاجة» في المرحلة الانتقالية المنصوص عليها في «جنيف 1»، ما دام تخلى عن مسؤولياته التي من المفترض أنها «دستورية»!! للإيرانيين ولغير الإيرانيين، وما دام لم يعد يسيطر فعليًا إلا على «رُقعٍ» صغيرة متباعدة وغير مترابطة من سوريا، وما دام تحول بالعنف الدموي، الذي بقي يمارسه وبأبشع أشكاله على مدى الأعوام الأربعة الماضية، إلى مرحلة الانتقام من أجل الانتقام والدليل هو ما حصل في دوما في غوطة دمشق الشرقية في الأيام الأخيرة.
والمثير للاستغراب والمضحك حقًا وفعلاً هو أن هناك، رغم كل هذه الحقائق الآنفة الذكر، منْ يضغط على الإدارة الأميركية، التي هي ليست بحاجة إلى أي ضغط، لتطلب من الرئيس السوري بشار الأسد، الذي تعد هذه هي أوضاعه وهذه هي معنوياته وهذه هي حالته، مساعدتها في مواجهة «داعش»، فهؤلاء إمَّا إنهم لا يدركون حقيقة ما يجري في سوريا، وهذا مستبعد جدًا، أو أنهم لا يريدون لهذا الصراع النهاية التي تحافظ على وحدة هذا البلد وتجنبه الانقسام الذي يبدو أنه بات مطلبًا إيرانيًا وأيضًا ربما دوليًا في ضوء الحلول التي يجري الحديث عنها، وبخاصة بالنسبة لبلدة الزبداني وقريتي كفريا والفوعة، وحيث لم يعد الإيرانيون يخجلون من التمسك بضرورة أن يكون هناك تفريغ «ديموغرافي» متبادل وعلى أسس مذهبية وطائفية.