IMLebanon

دور تركي غامض… وإيران والسعودية تعترضان

تتوالى المؤشّرات الواضحة حول شروع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في صياغة الفصل الأخير من الزلزال الذي ضرَب ولا يزال منطقة الشرق الأوسط. صحيح أنّ الاتّفاق حول حلب تأخّر الإعلان عنه لكنّه حاصلٌ لا محال.

بخلاف الانطباع السائد، فإنّ القيادة الروسية تبذل جهوداً كبيرة لتركيز دعائم الاتفاق النهائي قبل رحيل الرئيس الاميركي باراك أوباما عن البيت الابيض.

صحيح أنّ الحزب الديموقراطي سيستفيد انتخابياً من هذا الإنجاز وسيستخدم ورقة القضاء على «داعش» في الحملات الانتخابية الحامية وقبل فتحِ صناديق الاقتراع، إلّا أنّ القيادة الروسية تُريد تثبيت اتفاق يُكرّس دورَها المحوري والكبير في المنطقة ويَمنحها نفوذاً واسعاً لم تَحلم به من قبل، لاستباق وصولِ إدارة جديدة الى البيت الابيض بات معروفاً أنّها ستعتمد سلوكاً متشدّداً إرضاءً للشارع الاميركي.

فالكرملين يريد إنجاز التفاهم حول التسوية المطروحة ووضعها موضع التنفيذ لتكون المرحلة الثانية هي مرحلة التسوية الاسرائيلية – العربية والتي وضَعت موسكو مع واشنطن عناوينَها العريضة.

قائد القوات الاميركية في الشرق الاوسط الجنرال جوي فوتيل كان قد توقّعَ انتهاء معركة تحرير الموصل من «داعش» قبل نهاية العام الجاري، وهو ما يَعني «كسر ظهر» دولة «داعش» بشكل كبير قبل الانتقال الى المرحلة التالية وهي استعادة الرقة في سوريا.

لكنّ ديبلوماسياً أميركياً معنياً بملف الشرق الاوسط أشارَ الى توجيهات أُعطيَت إلى القيادة العسكرية الاميركية تقضي بعدم تكرار الأخطاء التي ارتكبَتها واشنطن إثر غزوِها العراق عام 2003.

وتحدّث الديبلوماسي عن معركة تضمن حماية الأقليات الدينية من خلال منحِها دوراً سياسياً في المراحل المقبلة عبر صيغة حكمٍ تعتمد على النظام الفدرالي أو ربّما على وجهٍ من وجوه الحكم الذاتي، لكنّ الديبلوماسي الاميركي بدا حاسماً بأنّ هذه الصيَغ المطروحة لا يجب أن تعني أبداً تقسيماً جديداً لدولة العراق. فالتقسيم غير وارد وغير مطروح.

وبالتالي فإنّ العمليات العسكرية التي ستدور يجب أن تحرَص على تأمين هذا الجانب بحيث يَستفيد منه السُنّة إضافةً إلى الأقليات الصغيرة الأخرى أو ما تبَقّى منها.

لكنّ استعادة محافظة الرقة أو ما اصطلِح على تسميتها بعاصمة «الدولة الإسلامية» سيأخذ وقتاً أطول بقليل بعد المستجدّات المهمّة التي طرَأت على الصراع الدائر في سوريا، والتي تتمثّل خصوصاً بالدخول العسكري التركي وحربه على الأكراد.

ذلك أنّ موسكو، وخصوصاً واشنطن، اعتمدتا في حربهما على «داعش» على القوات الكردية التي قدّمت العناصر ودفعَت الدماء وشكّلت قوات مشاة ناجحة، فيما تولّت كلّ من واشنطن وموسكو مهمّة الدعم الجوّي وتقديم المعلومات والصوَر المأخوذة جوّاً.

لكنْ مع الدخول العسكري التركي إلى جرابلس ومحيطها والاشتباك مع الأكراد وطرد قواتِهم من المنطقة وصولاً إلى نهر الفرات بمباركة اميركية وروسية وإيرانية وسورية، سَقط الحلم الكردي باستكمال الشريط الحدودي تمهيداً لإعلانه دولةً كردية وإلحاقه بكردستان العراقية. وهذه الصدمة التي تلقّاها أكراد سوريا جعلتهم يُحجمون عن التعاون مع الأميركيين في مسعاهم لاستعادة الرقة.

لكنّ المصادر الاميركية التي تعتقد أن لا خيار للأكراد سوى استعادة تعاونِهم العسكري مع القيادة الاميركية، تتحدّث عن أنّ الأمور ستحتاج لبعض الوقت لإقناع الأكراد بالتعاون مجدّداً.

وجاء من يذكّر الأكراد بالكلام الذي كان أبلغَه إيّاهم هنري كيسنجر عبر وسيط عام 1975 من خلال البرازاني: «لا تمزجوا بين دعمِنا الاستخباري لتنظيمكم وأحلامكم البعيدة المدى. دعمُنا ليس رسالةً تبشيرية بل إنّه ينطلق من حسابات ومصالح، وهي كثيرة ومتشابكة ومعقّدة. والدعم الاستخباري لديه أفُق مختلف عمّا تعتقدون».

لكنّ واشنطن التي رَعت الصفقة الروسية – التركية تبدو متمسّكة بدورٍ ما للأكراد لا يصل حتماً إلى حدود إنشاء دولتهم. فالجيش التركي الذي اجتاز الحدود السورية إنّما نفّذ حركتَه بعد إنجاز تسوية مع روسيا اطّلعت عليها واشنطن لحظة بلحظة، ولخّصَها نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف خلال زيارته عواصم خليجية بالمعادلة الآتية: يدخل الجيش التركي إلى جرابلس وينتشر بقوى محدودة في المنطقة الفاصلة حتى نهر الفرات في مقابل إقفاله الحدود في وجه «داعش» ووقف أيّ عمليات تهريب للعناصر أو السلاح الى سوريا. وهذا يعني ضمناً وقفَ الدعم التركي للمنطقة الشرقية لحلب.

وبذلك تكون تركيا قد استبدلت نفوذها غير المباشر والمطوّق في حلب بنفوذ آخر مباشر وشرعي ويَحظى بدعم دولي في جرابلس ومحيطها.

ويشكّل هذا الاتفاق مدخلاً ميدانياً ممتازاً للتسوية الكاملة والتي أضحت على قاب قوسين من الولادة. ألم يَعترف بصراحة رئيسُ الحكومة التركية بأنّ بلاده ستعمل على التطبيع مع مصر وسوريا؟ ألم تؤدِّ اللقاءات الأمنية بين السوريين والأتراك مرّةً في الجزائر ومرّة في دمشق إلى بدء مرحلة جديدة من التعاون؟ ألا يُعتبَر ذلك مؤشّراً كبيراً وصادماً لبدء مرحلة إنجاز التسوية النهائية؟

كلّ ذلك صحيح، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ هناك أطرافاً أساسية لا تبدو موافقة على التسوية بصيغتها الحالية وبالحصَص التي أفرزَتها. والأرجح بالغموض الذي يكتنف المراحل اللاحقة. وأبرز هذه القوى هي إيران، أضِف إلى ذلك السعودية ولو من زاوية أخرى، والتي تبدو معترضةً على الدور التركي الجديد الذي جاء على حسابها.

فإيران ترسم علامات استفهام كبيرة حول الدور التركي المستقبلي. صحيح أنّ تقاطعاً حصَل بين موسكو وأنقرة وطهران ودمشق لضربِ الأكراد وقطع التواصل للشريط الحدودي الكردي ومنع قيام الدويلة الكردية، لكنّ مصلحة إيران تقف عند هذا الحد، فيما تبدو تركيا وكأنّها تستعدّ لدور جديد أوسع، لا يمكن أن تُفسّره طهران إلّا كمنافس لها ولدورها.

ففي نهاية المطاف، إنّ تركيا هي حليف استراتيجي للولايات المتحدة الاميركية وأثبتَت تداعيات الانقلاب الفاشل أنّ الروابط القوية بين البلدين هي في عمقِ العمق، وهو ما يَعني أنّ واشنطن قد تسعى إلى تكبير العامل التركي في سوريا وتوظيفه في إطار سياستها، خصوصاً أنّ المنطقة مقبلة على مشروع التسوية الإسرائيلية – العربية.

وكانت الرسالة الاعتراضية الإيرانية واضحة مع استهداف العمق السعودي بصاروخ باليستي. وهي ربّما أرادت ضربَ الاتفاق وإثارةَ السعودية المعترضة بدورها على التسوية الحاصلة في سوريا والدور التركي على حساب الدور السعودي.

في هذه اللحظة بالذات، حصل انفجار زحلة الغامض. صحيح أنّ أحداً لم يتبنَّ الانفجار، لكن الواضح أنّ الحجم الصغير للعبوة كان مقصوداً به رسالة إلى الرئيس نبيه برّي عبر حافلاته التي كانت تمرّ في المحلّة، وهذه المنطقة كانت قد شهدَت سابقاً تفجيرات استهدفَت كوادر لـ«حزب الله» أثناء توجّههم للقتال في سوريا، وشكّلت نقطة ضعفٍ أمنية.

وبالتالي فهل كان فحوى الرسالة فرملة اندفاع الرئيس برّي في اتّجاه ملاقاة التسوية، وهو الذي ما برح يُردّد أخيراً أنّ تطوّرات كبيرة مقبلة سيستفيد منها لبنان من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفقَ سلّة قبل نهاية هذه السنة.

لكنّ الأوساط الديبلوماسية الغربية تبدو واثقة بأنّ قطار التسوية الإقليمية تصعب عرقلته رغم الاعتراضات الكبيرة التي ظهرَت أخيراً، وأنّه سيشمل لبنان من دون شكّ، ولو أنّ مرحلة صعبة ستسبق ذلك.