IMLebanon

في الصراع التركي – الإيراني

كان التنافس بين إيران الشاه وتركيا أتاتورك على خدمة المشاريع الغربية، خصوصاً الأميركية، وكان الطرفان يكتفيان بتأدية هذا الدور، من دون الدخول في صراع مباشر على النفوذ في الشرق الأوسط. بل كانت الدولتان، بالتعاون مع إسرائيل، متفقتين على تحجيم المد القومي العربي القادم من مصر وسورية إلى العراق وبلاد الشام. وإلى جانب هذا الدور الموكل إليهما في الشرق الأوسط، كانتا تشكلان الجبهة المتقدمة في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمد الشيوعي القادم من موسكو، عبر آسيا الوسطى.

بعد انتصار الثورة الإيرانية تغيرت كل المعادلات في الإقليم. المد القومي العربي تراجع إلى حدود الإضمحلال. وجد الأسد الأب فرصته لاختراق المثلث (أنقرة وتل أبيب وطهران) فتحالف مع إيران، وعزز تحالفه معها، حتى في أوج حربها على العراق، لكنه بقي محافظاً على علاقاته العربية. أما النظام الإسلامي الجديد فوجدها فرصة ذهبية لمد نفوذه إلى بلاد الشام، متخذاً المسألة الفلسطينة شعاراً. ولا ننسى أن مصر السادات أصبحت خارج هذه المعادلة منذ ذلك التاريخ (1979).

في ظل هذا الفراغ نمت الحركات الإسلامية بهدوء وأصبح لها حضور قوي في المجتمعات المحبطة من الهزائم المتكررة، ومن أنظمة الإستبداد الراسخة. ونحن نشهد اليوم تدميراً منهجياً لأنظمة ودول، بدأ بالعراق خلال الإحتلال الأميركي، وانتقل إلى ليبيا ثم سورية.

نستعيد هذه الوقائع لنقول إن الخراب الذي نشهده ليس وليد اليوم، فمقدماته بدأت في الثمانينات، وربما قبلها، إذا عدنا إلى وقوف السادات متفرجاً على حرب الاستنزاف التي كانت تخوضها دمشق.

رد إسرائيل على الثورة الإيرانية جاء في لبنان عام 1982 عندما شنت حرباً على المقاومة الفلسطينية واللبنانية والجيش السوري، واحتلت الجنوب 20 سنة متواصلة، إلى أن طردتها المقاومة، من دون قيد ولا شرط، وترسخ الدور الإيراني منذ ذلك التاريخ، ليبدأ فصل جديد من المواجهة في الإقليم كله الذي انقسم بين محورين.

هذا الإنقسام بدأ يأخذ منحى الفتنة «التاريخية»، على مستوى الشعوب والحكومات. استغلت تركيا الإسلامية (إقرأ «الإخوانية») هذا الإنقسام لإحياء نفوذها القديم المتجدد، فدعمت معظم الجماعات المسلحة لزعزعة النظام في سورية وإطاحته، غير عابئة بارتدادات ذلك على الداخل، معتبرة أن الشعار الإسلامي يحميها، خصوصاً بعدما دخلت في مرحلة مصالحة مع الأكراد، من دون أن تأخذ في الاعتبار تفوق الحس القومي لديهم على الحس الديني. والآن تخوض صراعاً على جبهتين في الداخل والخارج.

في الداخل يحاول رجب طيب أردوغان تحجيم حزب «الشعوب الديموقراطي» سياسياً، من خلال التحالف مع الأحزاب القومية لتشكيل حكومة تستبعد النواب الأكراد من السلطة التنفيذية، وتدعم دعوته إلى نزع الحصانة عن نوابهم وتحويلهم الى المحاكمة بتهة دعم الإرهاب.

في الخارج بدأ حملة عسكرية على الأكراد في سورية لمنعهم من السيطرة على الشمال والإتصال بأكراد العراق، ولتغطية هذا التوجه زعم أنه انضم إلى التحالف ضد «داعش»، بالتفاهم مع الولايات المتحدة، أي أنه انخرط في الحرب السورية مباشرة، بعدما فشلت كل المؤسسات السياسية مثل «الإئتلاف» وقبله «المجلس الوطني» في تقديم البديل للنظام، على رغم الاعتراف الدولي، وبعدما فشلت كل التنظيمات المسلحة الموالية لأنقرة في إسقاطه عسكرياً.

وخارجياً أيضاً، يخوض أردوغان صراعاً مع إيران على النفوذ في العراق وسورية، فدمشق بالنسبة إليه تعتبر درة التاج السلطاني، وهي بالنسبة إلى طهران أكثر من مجرد حليف. إنها العاصمة التي تؤمن لها أهم موقع في بلاد الشام، استطاعت من خلالها ومن خلال نفوذها في العراق اختراق العالم العربي كله، والتخلي عنها يعني هزيمة جيو-استراتيجة كبرى، فيما تحتفل بتوقيع الاتفاق النووي مع الغرب الذي يستعد لفتح صفحة جديدة معها. وشركاته تتهافت على طهران التي تستعد لاستثمار الأموال الموعودة بالإفراج عنها في هذا الصراع ومنافسة أنقرة، ليس في سورية والعراق وحدهما بل في آسيا الصغرى أيضاً، مطمئنة إلى أن مناهضي المرشد في الداخل ضعفاء غير مسلحين، فيما أردوغان متورط في صراع دموي داخلي مع الأكراد قد يشمل مكونات أخرى إذا استمر في إصدار فرماناته.

الصراع تركي – إيراني والساحة عربية في سورية والعراق.