لا يمكن إخفاء تأثّر القوى السياسية والطائفية بالخارج، وقد نسجت الطوائف عبر التاريخ علاقات مع دول عربية وأجنبية وتمّ توارث هذه العلاقات حتى زمننا الحالي. وتجعل تلك الإرتباطات «بلد الأرز» مُهدّداً بالإهتزاز في كل لحظة تتأزّم فيها العلاقات الإقليمية والدولية.
إحتل العثمانيون لبنان والشرق نحو 400 عام. ونشأت علاقة متينة مع سنّة المنطقة لأنّ السلطنة العثمانية كانت تُمثّل الخلافة الإسلامية. وتبدّلت موازين القوى الدولية بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى وحلول الإنتدابَين الفرنسي والبريطاني مكانهم. وغابت تركيا عن لعب دور عالمي، من ثمّ أتت مرحلة التخلّص من الإحتلالَين الفرنسي والبريطاني وتحرّر الدول العربية.
تأثّر سنّة لبنان بحركات التحرّر العربية وأفكار وحركات الوحدة. برز هذا الأمر مع وصول الرئيس جمال عبد الناصر إلى سدّة الحكم في مصر العام 1956 وإنشاء الجمهورية العربية المتحدة في العام 1958، فباتت مرجعية السنّة في القاهرة وليس في أنقرة. ومع رحيل عبد الناصر وسطوع نجم المملكة العربية السعودية، صار دور الصدارة للرياض. ونُسجت علاقة وطيدة مع سنّة لبنان وتعزّزت بعد وصول الرئيس رفيق الحريري إلى الحكم.
وتشهد الساحة السنّية اليوم إرباكات وضياعاً نتيجة ابتعاد الرئيس سعد الحريري وانكفائه عن العمل السياسي. فيما قفزت العلاقات السنية – التركية إلى مراحل متقدمة في فترة سابقة، وذهب البعض إلى القول إن جزءاً من سنّة لبنان عاد إلى الحضن التركي.
لعبت شخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دوراً في جذب سنّة المنطقة إليه وليس فقط لبنان خصوصاً بعد دفاعه عن القضية الفلسطينية ومحاولة وقوفه بوجه المشروع الإيراني ومعاداته لنظام الرئيس السوري بشّار الأسد. ويشهد تاريخ 27 أيار منافسة شرسة بين أردوغان ومرشح المعارضة كليتشدار أوغلو. وهناك بعض النقاط التي تُثار لبنانياً أبرزها: هل فعلاً ترك سنّة لبنان الحضن العربي ولجأوا إلى التركي؟ وما مدى تأثير سقوط أردوغان إن حصل على الحضور التركي في لبنان وعلى الطائفة السنية تحديداً؟
توسّع الدور التركي في طرابلس وعكار والشمال في السنوات الأخيرة نتيجة الأزمة الإقتصادية الحادة. فتركّز الدور التركي على الخدمات ولم يصل إلى مرحلة الدخول المباشر في السياسة، وهذا الأمر يؤكّده أحد نواب كتلة «الإعتدال الوطني» التي هي أكبر كتلة في عكار وطرابلس، إذ يجزم قائلاً: تركيا تقوم بدور إنساني وإجتماعي في الشمال، أما نحن، فمع الرياض قلباً وقالباً وإن كان هناك بعض العتب على تراجع دور المملكة في الشمال ولبنان، ورهاننا عليها لكي نصمد.
ويتابع: الإنتخابات التركية شأن داخلي تركي. نتعامل مع أنقرة من دولة إلى دولة وليس كما علاقة طهران بـ»حزب الله»، ويسقط كل الكلام عن تأثير تركي في بلدنا. لبنان جزء لا يتجزأ من المنظومة العربية، وكل محاولات زرع الشقاق بين لبنان والخليج والعرب لن تمرّ، لذلك لن تؤثر نتائج الإنتخابات التركية على الواقع اللبناني والسنّي.
ينشغل الشمال ولبنان بالهمّ المعيشي والأزمة الرئاسية، وتتوالى المواقف من النواب والشخصيات السنية التي تؤكّد التزام لبنان بعمقه العربي وانتخاب رئيس لا يُغضب السعودية ويُعيد وصل علاقات لبنان بالجوار العربي.
وتعمل دار الفتوى على لمّ الشمل السني وتحديد بوصلة الأهداف. ويبدو واضحاً تمسّك السنّة بإعادة وصل علاقات لبنان بالرياض وبقية الدول الخليجية والعربية. وإذا كانت الإنتخابات الرئاسية التركية تحظى باهتمام عالمي، فإنّ تأثيرها السياسي على لبنان والطائفة السنية يبقى محدوداً.
وتحرص دار الفتوى ومشايخ السنّة على توجيه البوصلة بالإتجاه العربي مع إبقاء العلاقات جيدة مع تركيا وكل الدول التي تحب لبنان. ويكشف رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام الشيخ خلدون عريمط لـ»نداء الوطن» عن تضخيم جرى سابقاً ويستمرّ للدور التركي في الشمال وداخل الطائفة السنية. ويلفت إلى وجود علاقات بين أنقرة وبلدات عكارية فيها عائلات من أصول تركية مثل الكواشرة وعيدمون وقرى أخرى.
لا ينكر عريمط الدخول التركي إلى الشمال من البوابة الخدماتية وتقديم المساعدات لتعويض غياب الدولة في زمن الإنهيار، لكن هذا الأمر بقي في إطاره الضيّق ولم يصل كما تحدّث البعض، إلى حدّ تنظيم ميليشيات تركية وإنشاء مناطق نفوذ.
ساعدت خلفية أردوغان الذي كان ينتمي إلى «الإخوان المسلمين» في تسويقه سريعاً في بعض المناطق السنية، لذلك يرى عريمط أنّ هذا الأمر يقتصر على مناصري «الجماعة الإسلامية» ولم يصل إلى نشوء حالة سياسية، في حين رأى البعض في وقوف أردوغان بوجه المشروع الفارسي وتراجع الدور العربي، فرصة للتصدّي للهجمة الإيرانية التي تستهدف سنّة المنطقة وليس لبنان. ويُشدّد عريمط على الإنتماء العربي للسنّة اللبنانيين، فهم أقرب إلى الرياض والقاهرة من قربهم إلى أنقرة. ويعتبر أن سقوط أردوغان، على رغم استبعاد هذا الأمر، يؤثّر على السياسة التركية في المنطقة وليس في لبنان لأن منافسه أوغلو قريب من السياسة الأوروبية والغربية وسيُعيد تركيا إلى الحضن الأوروبي.
إذاً، يترقب العالم نتائج الإنتخابات التركية في 27 أيار، لكن مهما كانت النتيجة، فسنّة لبنان ينتظرون «كلمة سرّ» رئاسية وسياسية من السعودية وليس من تركيا، لذلك فإن التأثير التركي طفيف جداً ولو كان أقوى لكانت كلمة السرّ تأتي من أنقرة وليس من الرياض.