IMLebanon

أسئلة تركية  

يُفهم في الإجمال ومن دون أي أوهام، أن تركيا دولة محورية ومهمة، وهي مثل كل دولة أخرى، تحرص على صون مصالحها والابتعاد عمّا يضرّها أو يؤذيها، وتلتزم حدود المنطق القائل بأنها لا تذهب إلى الحرب من أجل غيرها!

قد تكون العلاقات البينية الأميركية الإسرائيلية هي الاستثناء الوحيد في هذه القاعدة. لكن حتى هذا الاستثناء المتأتي من توليفة معقدة تجمع معطيات كثيرة منها المال والنص الديني، لا يغيّب تبادل المنافع والمصالح، ولا ينفي واقعة أن إسرائيل وُصفت في لحظة من تاريخ الحرب الباردة، بأنها أهم قاعدة عسكرية أميركية في الخارج!

غير ذلك، لا يوجد في الزمن الراهن حروب قومية أو دينية عابرة للحدود! والمثال الإيراني هو الأفصح والأوضح: تدعم إيران «حزب الله» انطلاقاً من المعطى المذهبي الجامع (وبكل أنواع الدعم) لكنها تتركه وحيداً في كل حرب مباشرة مع إسرائيل، مثلما فعلت على مدى 33 يوماً في تموز 2006! ومثلما فعلت مع غزة التي اعتبرتها غداة سيطرة «حماس» عليها أنها جزء لا يتجزأ من قوسها الثوري الجامح: تركتها وحيدة في كل حرب خاضتها ضد الإسرائيلي، وستفعل ذلك مجدداً!

والحسبة واضحة: إيران تدعم مصالحها أولاً، ثم تعطي عنواناً لتلك المصالح ثانياً، من الحوثيين والمخلوع علي عبدالله صالح في اليمن إلى الميليشيات المذهبية في أفغانستان والعراق ولبنان.. إلخ. ولعبة المصالح هذه قهّارة وحسّاسة وأصحابها يرمون منها ربحاً وليس خسارة! ولأن الأمر كان وسيكون كذلك، وسيبقى، فإن التورط المباشر في حرب «خارجية» بعيدة عن حدود الكيان، يدمّر تلك المصالح ولا يحميها. أما الباقي المتعلق بالشعر والنثر والنص التعبوي الثقيل والبطاش والغائر في التاريخ والدين، فله مسوّغاته الأكيدة لكنها لا توصل، في أي حال من الأحوال، إلى اتخاذ قرار بالقتال نيابة عن الآخرين أو من أجل سواد عيونهم!

في بطانة هذا الكلام يُدسّ التطور المتسارع في الموقف التركي إزاء النكبة السورية. غير أن المبدأ العام لا يكفي لتبرير أو إغفال «التفاصيل»: ليس أمراً بسيطاً أن يخرج بن علي يلديرم رئيس الحكومة التركية ليكرر في غضون أيام قليلة توجّه بلاده إلى تطبيع علاقاتها مع سوريا، من ضمن مروحة تضم العراق بعد أن أعيد تلحيم ما انقطع من خطوط تواصل مع روسيا وإسرائيل (حكى قبلاً عن مصر قبل أن يتراخى الحكي ويضمر!).

يُفهم أن تكون تركيا دفعت أثماناً كبيرة لمواقفها إزاء النكبة السورية، ويُفهم أن يكون أمنها القومي تعرّض ويتعرّض لأخطار مزدوجة، كردية وإرهابية، ويُفهم أن اقتصادها الخدماتي (السياحي) تضرر جراء الأزمة العنيفة مع روسيا.. يُفهم في العموم أنها دولة ومجتمعاً قدّمت الكثير الكثير لدعم الشعب السوري والجماعات المعارضة بكل أنواع الدعم.. لكن في حدود فهم ذلك كله وفوقه قصة المصالح العليا والأمن القومي، وليس من خارجهما تطرح أسئلة صعبة، من أكثرية أهل المنطقة العربية والإسلامية: هل بقي شيء لدى سلطة الأمن والإرهاب الأسدي كي تقدّمه لفائدة الأتراك؟! أم أن بعض أثمان تصحيح العلاقات مع روسيا وإسرائيل مطلوب أن يُدفع في جيبة الأسد؟! وهل تحتمل هذه المنطقة وشعوبها تطوراً تاريخياً يتضمن تغييرات بنيوية عميقة في الجغرافيا والديموغرافيا قد تكون أصعب من تلك التي جرت في فلسطين في العام 1948؟!

قد لا تكون هذه الأسئلة في مكانها وقد تكون، لكن الأكيد هو أن ما يحصل يستوجب توضيحات لمعنى كلام التطبيع المتكرر.. وما إذا كانت هناك قطبة مخفية تتعلق بالمآلات والخلاصات وبشكل يبرر التنازل بالمفرق مقابل الفوز بالجملة؟! ثم بعد ذلك، فلتفعل أنقرة ما تراه مناسباً لصون مصالحها، لكن فليصمت بن علي يلدريم قليلاً، أقله، احتراماً لكل هذا الموت السوري!!