تَعتبر تركيا الجغرافيا الممتدة من جرابلس وأعزاز إلى السليمانية، وفي قلبها حلب والموصل، حزامها الأمني الاستراتيجي، المتصل عضوياً بدورها في الإقليم، وبوجودها كدولة مركزية. هي تراقب الأحداث في هذه المنطقة وتداعياتها السياسية، وتحاول مواجهة أيّ نشاط مقلق، لخصومها ومنافسيها، وحتى لحلفائها.
الدور التركي يزداد خطورة وتعقيداَ، في إطار مشروع استراتيجي، هدفه تقويض الدولة السورية، والعودة إلى ما قبل سايكس – بيكو. وهنا تبدو الموصل (العائمة على بحيرة نفط) الأكثر إثارة لشهية التركي، مع ازدياد الحديث عن معركة لتحرير المدينة من تنظيم «داعش».
على الأرجح، ستبدأ تركيا عملية عسكرية في شمال العراق قريباَ، هدفها الموصل، بدعم وغطاء أميركيين، انطلاقاً من تموضعها في جرابلس. فالولايات المتحدة تسعى إلى إنجاز عملية تحرير المدينة قبل الانتخابات الرئاسية، وتحشد لخوضها حلفاءها الغربيين والإقليميين.
حاجة الإدارة الأميركية لهذا لإنجاز، باتت ملحّة لتعزيز حظوظ المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون في الفوز بالانتخابات، ولطمأنة الأميركيين إلى فعالية إدارة أوباما في مواجهة الإرهاب، ومفاوضاتها مع أنقرة في هذا الشأن، تكتسي أهمية بالغة.
فالعملية تنطوي على مغامرة سياسية خطرة في حال فشلها أو تعثّرها. في تحضيراتها للمعركة، تعوّل واشنطن على دور تركي رئيسي، خصوصاً أنها ترفض مشاركة «الحشد الشعبي» وحليفته إيران، ولا تثق بقدرات الجيش العراقي المنهك، لخوض عملية بهذا الحجم، على رغم أنها تعتبر مشاركته أساسية، لترسيخ حضور رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، وضمان ابتعاده من إيران ومحور المقاومة، لتعزيز نفوذها.
وفي المقابل لا مصلحة للأميركيين بمشاركة فعالة للجيش العراقي تعيد إليه هيبته. أمّا القوى الكردية، فبات وضعها أكثر حساسية، وتعاني مصاعب سياسية وعسكرية كبيرة، بعد عمليات الجيش التركي في شمال سوريا.
الأميركيون يدركون حجم التعقيدات العراقية الداخلية، والتناقض الحاد في مصالح وأهداف القوى الخارجية، وهم يدركون، أيضاً، الأهمية الخاصة لحلّ العُقَد ولإبرام اتفاقات بين هذه القوى، لبناء الأرضية الضرورية، لتحرير الموصل أولاً، ولمنع احتدام المواجهات الأمنية والسياسية بعد تحريرها ثانياً. الأميركيون لن يسمحوا ببدء المعركة قبل إنشاء غرفة عمليات مشتركة بقيادتهم، تنضوي تحت لوائها كلّ القوى المشاركة.
وفي النقطة الأخيرة بالذات، تبدو تركيا، معضلة وحلّاً. فالأكراد يشترطون للمشاركة، الاتفاق على وضع كركوك، القانوني والسياسي، وعلى علاقتها بإقليم كردستان، والاتفاق على مصير المناطق المتنازع عليها، التي دخلتها قوات البيشمركة خلال الفترة الماضية، التي يرجح أن تمتد إلى الموصل، في حال تحريرها. الأهداف والمصالح التركية في العراق تتأثر بمقدار كبير بالشروط الكردية.
فالتركمان معنيون مباشرة بقضايا كركوك والموصل وبعض المناطق المتنازَع عليها. مطالب التركمان تتركز أساساً حول الحفاظ على وضع لكركوك، بإدارة مشتركة، عربية، وكردية، وتركمانية، فيما يصرّ الكرد على ضمّها إلى إقليمهم. ويعاني التركمان من الإهمال والاستبعاد، ويخشون الاضمحلال في مناطقهم، وفي مجمل العراق (هم القومية الثالثة بعد العرب والكرد).
يتّضح حجم المشكلة، إذا عرفنا أنّ التركمان، هم الرافعة الأساسية لأيّ تدخّل تركي في العراق، «معاهدة أنقرة» مع بريطانيا عام 1926 منحت تركيا حق «الضامن» لأمن التركمان، خصوصاً في الموصل. واتفاقية لوزان عام 1925، تمنحها حصة من نفط الموصل (حصلوا على جزء من هذه الحصة في خمسينيات القرن الماضي). إلى جانب استخدام المادة 51 من اتفاقية الأمم المتحدة في التدخل لحماية أمنها القومي من عمليات «داعش» وحزب العمال الكردستاني.
وتركيا تواجه أيضاً، مشكلة جوهرية في قدرتها على توحيد التركمان العراقيين المنقسمين الى سنّة وشيعة، خصوصاً بعد الدماء التي سالت بينهما في مدينة تلعفر، وهو ما يضعف انتماءهم القومي، وبالتالي يحدّ من إمكانية اصطفافهم خلف أنقرة ضد الأطراف الأخرى، خصوصاً أنّ الشيعة منهم، يشكلون جزءاً من «الحشد الشعبي».
وأيّ محاولة تركية، للإمساك بالقرار التركماني العراقي، يتطلّب إعادة الاعتبار لحضورهم في كركوك والموصل، وغيرهما، ربما في إقليم منفصل عن الكرد، ما سيثير حساسية الأخيرين، ويدفعهم إلى رفض المشاركة في مواجهة «داعش»، في حين يعتبرهم الأميركيون قوّتهم البرّية في العراق وسوريا، ويصرون إلى إناطة دور رئيسي بهم في الحروب المشتعلة في البلدين.
فالكرد يخشون من أن يجهض، دخول الأتراك إلى الموصل، مشروعهم القومي. علماً أنّ جميع الأطراف المحلّيين والإقليميين، ليسوا في وارد دعمهم، خشية مواصلة سعيهم إلى مزيد من الاستقلال السياسي، والتوسّع الجغرافي.
لا شك لدى الأميركيين، في أنّ أيّ عملية عسكرية ناجحة في الموصل، تقتضي انخراطاً برّياً تركياً، شبيهاً بعملية «درع الفرات» في شمال سوريا. ويعرفون أن ليس بوسع أيّ قوة محلية، أو إقليمية، الدخول إلى الموصل، أو تغيير وضعها القانوني والسياسي، من دون التنسيق مع أنقرة، لأنّ ذلك سيستدعي مواجهة مباشرة مع تركيا.
وبالتالي ليس أمام واشنطن سوى محاولة تجاوز هذه التعقيدات، أو التأقلم معها، لإنجاز نصرٍ كامل، يفضي حسب رؤيتهم، إلى فرض الأقلمة في سوريا (الغارة الأميركية على مواقع الجيش السوري في دير الزور، أبرز مؤشراتها العملية)، وحماية أمن إسرائيل، باحتواء إيران ومحور المقاومة، وتعزيز الأنظمة الحليفة.
تحرير الموصل، سيعد انتصاراً سياسياً مهماً لإدارة أوباما، لكنه، بالنسبة الى تركيا، فرصة لتوسيع نفوذها للعب دور أكبر وأكثر فعالية، ويعزّز موقعها التفاوضي في صوغ مستقبل سوريا والعراق، بل يجعل من أنقرة محجّة إقليمية ودولية، للبحث في مجمل قضايا المنطقة، وفي تقرير وجهة الأزمات، بعدما أمسك أردوغان أخيراً بالفيتو على أيّ تسوية في سوريا في المرحلة المقبلة.
رئيس الوزراء العراقي وصف الأطماع التركية في الموصل، بأنها حقيقية، وقد تؤدي إلى حرب إقليمية كبرى. فسيطرة الأتراك على الموصل ستمنحهم ميزة استراتيجية، تمكنهم من المشاركة الأساسية في تحديد مصير الرقة، ويعزّز قدرتهم على مدّ نفوذهم إلى حلب، وإلى أيّ كيان ينجح الكرد في إقامته، وربطه بتركيا اقتصادياً وأمنياً وسياسياً.
دخول الأتراك الى الموصل سينتهي إلى استفتاء شعبي لتغيير وضعها القانوني والسياسي، قد يفضي إلى تحويلها إقليماً متفلّتاً من المركز، ومرتبطاً بتركيا. والأطماع التركية في العراق وسوريا، تشير في وضوح، إلى اتجاه المنطقة المستمر نحو البلقنة.