سعى الغرب منذ أواخر الأربعينات إلى كسب تركيا واليونان الى جانبه كحليفين استراتيجيّين في مواجهة التمدد السوفياتي أمام بوابات بحر ايجه والمضائق التركية وشرق المتوسط . ومن أجل ذلك كان عليه دمج البلدين في مشاريعه وخططه التكتّلية مثل حلف شمال الاطلسي والمجلس الأوروبي والإتحاد الأوروبي. المهمة نجحت احياناً وفشلت احياناً اخرى بسبب الخلافات التاريخية المزمنة بين انقرة واثينا، واستحالة نزع فتيل التوتر المهدّد بملفات التسخين الكثيرة.
إستراتيجية الإنفتاح في مطلع الألفية تحت عنوان «دبلوماسية الزلازل»، بعد تعرّض البلدين إلى كارثتين طبيعيتين قرّبتهما إنسانياً، تبخّرت عام 2004 بعدما حققت اليونان وحليفتها قبرص اليونانية انتصارات استراتيجية كبيرة ضد تركيا بينها منح العضوية الكاملة للقسم الجنوبي من الجزيرة في المجموعة الأوروبية، وفشل المجتمع الدولي في إقناع قبرص اليونانية بقبول مشروع كوفي أنان لحلّ الأزمة القبرصية وقطع الطريق باكراً، في محاولة لعب ورقة الأزمات الاقتصادية في اليونان التي دفعت حزب العدالة والتنمية التركي إلى توجيه أكثر من رسالة في اتجاه مدّ اليد نحو أثينا.
بقدر ما هو كبير حجم التباعد بينهما في ملفات تتصدّرها المسألة القبرصية والسيادة في بحر إيجه ومشكلات الاقليات الدينية، فإنّ فرص التقارب تزايدت مع اكتشاف الغاز في شرق المتوسط ودخول العامل الاسرائيلي على الخط، وبروز مشروع نقل الغاز الروسي عبر تركيا واليونان وحاجتهما الى بعضهما في مسألة مواجهة اللجوء والهجرة السرّية التي تزايدت عبر أراضيهما في الاعوام الثلاثة الاخيرة، ووصول قيادات سياسية براغماتية منفتحة الى السلطة، تقرأ مسار العلاقات بعيداً عن تقديم القومية والعرقية المتشدّدة وإبقاء الخلافات الدينية في صدارة مشهد العلاقات بين الدولتين.
ومع ذلك فإنّ أصغر شرارة تصعيد كانت دائماً كفيلة بالتحوّل الى شعلة تهدد بإشعال حريق كبير يطيح بكافة الجهود خصوصاً بعد انحياز اوروبا الى جانب اثينا، ورفض واشنطن لعب أيّ دور توسط حقيقي بين حليفيها وترجيح اسلوب العصا والجزرة حيالهما.
تصعيد غير مسبوق على خلفية أزمة رفض المحكمة اليونانية العليا تسليم ثمانية ضباط أتراك تتّهمهم أنقرة بالضلوع في المحاولة الانقلابية التي جرت في منتصف تموز المنصرم . لكنّ التباعد اكبر من ذلك هو في البرّ والبحر والجوّ، والشركاء والحلفاء للبلدين لا يستطيعون فعل الكثير أو هم لا يرغبون في ذلك.
موسكو التي تتابع عن قرب كلّ هذه التورطات ستتحرّك هذه المرة للاستفادة من الفراغ المتروك على امل لعب ورقة العامل الديني الارثوذكسي الجامع بينها وبين اثينا من جهة، واستغلال تقاربها الواسع مع انقرة في الأشهر الاخيرة ثنائياً وإقليمياً من جهة أخرى.
ما أُعلن من مبادرات وخطوات متبادلة لخفض حجم الإنفاقات العسكرية وتوقيع عقود تجارية واقتصادية بين البلدين مهدَّد بالتراجع هذه المرة مع تصريحات تصعيدية في الجانبين يقول بعضها إنّ الفرصة العسكرية متاحة اليوم لتلقين تركيا الدرس بسبب ارتدادات المحاولة الانقلابية هناك على المؤسسة العسكرية التركية وضعفها وتفكّكها.
ويقول آخرون في انقرة إنّ اثينا تحاول باستمرار الاصطياد في المياه العكرة من قبل مجموعات عرقية قومية متطرّفة تشارك في السلطة، لكنّها جاهزة للمغامرة بتوريط اليونان في حرب لن تستطيع الصمود فيها بسبب مشكلاتها الاقتصادية والمالية.
التحرّك الروسي على خط انقرة واثينا محتمل واقرب بهدف الاستفادة من الصمت الاوروبي والتجاهل الاميركي. موسكو ستحاول لعب ورقة غاز شرق المتوسط في منطقة غير بعيدة منه جغرافياً، ويربطه بها الكثير من المصالح الاستراتيجية وموسكو تحت غطاء حاجة تركيا واليونان الى الاستفادة من نقل غازها الى الغرب، مع أنّ الجميع يعرف أنّ الهدف الحقيقي هو فتح الطريق امام التحكم بمسار ومستقبل أكثر من أزمة إقليمية
يكون الغاز والتبادل التجاري والاقتصادي مركز الثقل في تحديد مسارها.
اليونان والقبارصة اليونان يعرفون صعوبة وتكلفة نقل غازهم إلى أوروبا من دون الشراكة التركية في المشروع، وإسرائيل ايضاً بدأت توجّه رسائل الغزل نحو انقرة وموسكو بهذا الخصوص.
اليونان وإسرائيل يعرفان أهمية وقيمة «المعبر» التركي الذي يعرف جيداً حاجته الى حماية علاقاته بروسيا التي تعرف بدورها ما سيوفّره لها نجاحها من فرص في إنجاز عملية التقارب والتطبيع التركي اليوناني الذي سيحمل للجميع صفقات وعقوداً تجارية تستفيد من أكثر من تريليون متر مكعب من الغاز و235 مليار يورو. ويبدو أنّ قناعة الجميع هي أنّ الطرق كلها تتقاطع أمام المربع الروسي.