ليست قليلة بعض الخلاصات التي أظهرتها المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.. وإحداها أن أسوأ ما في الجيش التركي، أي الفئة القاصرة التي نفذت تلك المحاولة، بدت في مكان ما أفضل بمليون مرة من المنظومة الممانعة في نواحينا، خصوصاً في الشق الأسدي منها!
أحد أهم أسباب فشل محاولة السيطرة على الشرعية بالقوة، هو أن معظم عناصرها تورعوا عن استخدام القوة! وعن إطلاق النار على الأتراك! وعن سفك دماء مواطنيهم! ورموا أسلحتهم تحت أقدام الناس! واعتذروا منهم! وجنّبوا بلادهم حمّام دم لا قعر له!
وذلك أمر لا تقلل من فرادته واستثنائيته الروايات المتفرّقة عن قصف البرلمان (محيطه في واقع الحال!) ولا إطلاق طائرة هليكوبتر واحدة نيران رشاشاتها على بعض المواقع الأمنية والشرطية الحساسة! ولا بعض المواجهات التي أودت بنحو 180 ضحية!
«حصيلة» هذه المحاولة الخطيرة للسيطرة على السلطة في بلد مثل تركيا، عدد سكانه يقارب الخمسة والسبعين مليون نسمة، وتركيبته متعددة الأقوام والأديان، ومنخرط في مواجهة مسلّحة مع جزء من المكوّن الكردي، وتاريخه القريب لم يكن بعيداً عن استخدام العنف السياسي والأهلي، ومجاور منذ خمس سنوات لنكبة دموية لا مثيل لها في عالم اليوم.. تلك «الحصيلة» لا توازي «حصيلة» مجزرة يومية واحدة من مجازر المحور الأسدي وحلفائه في حق شعب سوريا!
لا يمكن التعامي عن هذه المفارقة، ولا التفخيت فيها، ولا الهروب من حقيقة أن الأتراك في جملتهم، خصوصاً الجيش والأحزاب السياسية، راكموا منذ الانقلاب العسكري الأخير في مطالع ثمانينات القرن الماضي ما يكفي من وعي مدني وحداثي جعلهم في اللحظة الحرجة يبدون وطنية صافية على حساب أي معطى انقسامي أو خلافي، أكان في السياسة أو المذهب أو العرق!
وتلك فضيلة لا يجوز تبرئة «حزب العدالة والتنمية» منها! ولا طريقته في مقاربة شؤون تركيا والأتراك، والتي تبقى، برغم كثرة الضجيج والطنين عن «أساليب» رجب طيب أردوغان، أهم تجربة من نوعها أقلّه على المستوى الإسلامي العام!
ما تكشّف في الأيام الماضية، أن تركيا تطوّرت شكلاً ومضموناً تنموياً وبشرياً، وأن تطلعها إلى الانخراط أكثر فأكثر في الأوربة لم يكن اصطناعياً ولا تنطحاً أو محاولة تسلل إلى عالم آخر لا تستحقه! وتلك في جملتها من مردودات الحداثة وقيم السوق المفتوحة والاقتصاد الحرّ والممارسات الديموقراطية في كل مظاهرها. ولا يمكن في مكان ما إلا الإقرار بذلك الترابط بين التحسّن الاقتصادي وتطوّر شؤون التنمية وارتفاع مستوى المعيشة والدخل (الخاص والقومي) وتنامي وجود وحضور الطبقة الوسطى، وبين تطوّر الوعي والحس المدني والمديني عند الناس!
التجربة التركية بهذا المعنى مدعاة للإعجاب نسبة لفرادة (غير موجودة على ما أدعي) في أوروبا أو مجتمعات ودول الجوار.. حيث أنها قدّمت وتقدّم مثالاً حياً وملموساً وحقيقياً (وخطيراً على ما يبدو بالنسبة إلى كثيرين غرباً وشرقاً) عن قابلية المزاوجة بين إسلام سياسي سلطوي والحداثة والمدنية.
وأهمية هذه الفرادة في كونها متماثلة برغم بعض الفروقات، مع المثال الماليزي، ومتناقضة مع المثال الإيراني! وفي كون التجربة الأردوغانية انطلقت من النص الديني لكنها لم تفرضه! واستندت إلى الموروث لكنها وظّفته في الحاضر بطريقة بنّاءة وليست عدائية! وأنها استطاعت في محيط عدائي (على عكس ماليزيا) الحفاظ على وتيرة تصالحية مع العالم!
والكلام هنا هو عن الحالة التركية عموماً، وليس عن بعض سياسات الحكم الأردوغاني، التي يمكن طرح بعض علامات الاستفهام في شأنها، خصوصاً في الشق الخارجي.. لكن ذلك في كل حال، لا يقلل من مستوى الاستغراب لذهاب بعض النخبويين العرب إلى مهاجمة «استبداد» أردوغان والإشادة ببشار الأسد! أو الوقوف خلف رايات «التنوير» الإيراني لمهاجمة «ظلامية» الحكم التركي!
الليلة التركية الطويلة، أثارت الكثير من الأسئلة ودواعي القلق، لكنها أضاءت قبل ذلك كله على حقيقة مأسوية هي أنه حتى جيراننا الأتراك صاروا في عالم آخر! وتركونا حيث نحن، ضائعين بين عالمَين: واحد ممانع أسدي إيراني، وآخر إرهابي.. أم تراهما عالم واحد؟!