هي «تغريدة»، مجرد «تغريدة»، أطلقها ديبلوماسي سعودي شاب أوفدته بلاده مؤخراً ليسد الفراغ في سفارة المملكة المذهبة بعد سحب السفير علي العسيري من بيروت، فجأةً، ومن دون تبرير، مما ترك المجال مفتوحاً أمام التخمينات والتقديرات والاجتهاد في التفسير، بسوء نية أو بحسن نية، لا فرق طالما لم تقدم الرياض ـ رسمياً ـ ما يبرر تصرفها «غير الديبلوماسي»… وفي توقيت حساس، لبنانياً وسعودياً، أي في لحظة احتدام المعركة الرئاسية في لبنان، بمرشحيها الكثر، والتي يفترض الجميع أن للرياض دوراً فيها، بمعزل عن أن يكون «حاسماً» أو «عاملاً مساعداً»… في ظل أوضاعها القلقة نتيجة اشتباكات متعددة الجبهات في المنطقة، تحرص أن يكون لها دورها في كل منها.
هي «تغريدة»، مجرد «تغريدة»، أطلقها الديبلوماسي الشاب الوافد حديثاً إلى بيروت، على موقعه الإلكتروني، مستعيداً فيها كلمات أطلقها وزير خارجية المملكة الراحل الأمير سعود الفيصل، مشيداً بكفاءة «رصيفه» ذات يوم مضى، وصديقه من بعد، جان عبيد، وصفه فيها بأنه «وزير خارجية العرب»، وأشاد بحنكته وحكمته وصدق عروبته..
هي «تغريدة»، مجرد «تغريدة» لديبلوماسي سعودي شاب، أطلقها على موقعه الإلكتروني، بعد أسابيع قليلة من وصوله إلى بيروت، حتى لا يجيء «العيد الوطني للمملكة» فيمر مرور الكرام، وفي عز احتدام المعركة الرئاسية، والبلبلة التي أثارها التحرك الأخير للرئيس سعد الحريري والذي كان عنوانه المباشر الانتقال من تأييد النائب سليمان فرنجية إلى تأييد العماد ميشال عون كمرشح لرئاسة الجمهورية..
هي «تغريدة»، مجرد «تغريدة»، لكنها تحولت إلى عناوين الصفحات الأولى للصحف، واحتلت مقدمات نشرات الأخبار في المحطات المختلفة، وهات يا تحليل وتقدير وتخمين عن السر في استعادة كلام الأمير الراحل في هذه اللحظة بالذات، وهل هو يعبر عن الموقف الرسمي للمملكة أم مجرد استعادة لكلام قاله سعود الفيصل، ذات يوم، لوزير خارجية سابق في لبنان، لكنه ظل صديقه حتى أيامه الأخيرة؟! وهل فعلها هذا الديبلوماسي الشاب وحديث الوجود ومباشرة العمل في سفارة بلاده في بيروت عفو الخاطر وكاستعادة قام بها ديبلوماسي جديد لكلمات واحد من أخطر وزراء الخارجية وأحكمهم في دنيا العرب؟
هي «تغريدة»، مجرد «تغريدة»، أطلقها ديبلوماسي سعودي شاب وصل حديثاً إلى بيروت، لملء الفراغ في السفارة التي خرج منها سفيرها ولم يعد، أم انها «وسيلة مبتكرة» و «فريدة في بابها» لإعلان موقف المملكة، التي كثيراً ما وصفت بأنها «مملكة الصمت والذهب»، من معركة الرئاسة في لبنان، ومرشحيها، في هذه اللحظة الحاسمة، وقد جاءت «من خارج النص»، وفتحت سياقاً جديداً لها، من خارج التوقع، بما يجبر الأطراف المختلفين على إعادة حساباتهم في ضوء هذا التطور الدراماتيكي في موقف المملكة؟
أسقط في يد المرشحين للرئاسة جميعاً، التقليديين منهم والمستجدين والطارئين، وتاهوا بين دلالات التحرك الأخير للرئيس سعد الحريري (الذي رآه البعض تزكية مفتوحة للعماد ميشال عون) ودلالات هذه الكلمات للأمير الراحل سعود الفيصل واستعادتها في هذه اللحظة بالذات، مما يبلبل الحسابات ويستولد المزيد من التقديرات والتخمينات في بلاد تعودت أن «يختار» لها الخارج رئيسها ومعه الحكومة بأكثريتها المضمونة؟
حار الكثيرون في تفسير هذه «التغريدة» ودلالاتها القريبة والبعيدة.. وتساءل البعض: هل هذه هي «كلمة السر» التي طالما انتظرها المرشحون للمنصب السامي في العهود السابقة لتقرر من منهم «الرئيس»؟! وهل هذه الكلمة السحرية تعبر أيضاً عن موقف الولايات المتحدة الأميركية، وهي الراعي الدائم لمملكة الصمت والذهب؟! أم هي مجرد «تغريدة» أطلقها ديبلوماسي غر وجديد على لبنان في لحظة احتدام المعركة الرئاسية فيه؟ أم أنه مجرد استذكار بريء لأمير الديبلوماسية السعودية في لحظة لها دلالاتها المؤثرة لبنانياً؟!
لا تفسير. الصمت فقط. ومما زاد في كثافة التخمين والتقدير والترجيح والتأويل أن الديبلوماسي الشاب تصرف وكأنه فوجئ بردود الفعل والتفسيرات التي ذهبت إلى أبعد مما قصد، فحذف «التغريدة» عن موقعه الإلكتروني.. ربما بعدما استهول حجم التداعيات وتباعد التفسيرات إلى حد التناقض حول دلالاتها والمقصود من إطلاقها بهذا التوقيت تحديداً؟!
… وهكذا تتبدى الحياة السياسية في لبنان، وبمعزل عن هذه «التغريدة» وصاحبها الديبلوماسي السعودي الشاب، على حقيقتها هشاشة وعشوائية وحساسية تجاه «الخارج»، بينما هي بليدة تجاه «الداخل» حتى لا نقول إنها تستهين بالداخل وتفترض أنه «تابع»، فما ان يتحرك «الكبار» بفعل «كلمة السر» المسقطة من علُ حتى يكون ما قد تقرر لهم وعليهم.. أما «القرار الوطني المستقبل» فيذهب مع الريح!
عشتم وعاش لبنان، سيداً، حراً، مستقلاً… إلى أبد الآبدين!