تُعرف الدبلوماسية في أحد مفاهيمها أنها أبرز عناصر القوّة الناعمة للدول وسياساتها الخارجية ومصالحها الحيويّة. إنها قديمة التكوين. عمرها من عمر السياسة، يُستعان بها في الحروب كسلاح تفاوضيّ، ويحتاجها السلم لتمتين العلاقات الدولية وازدهار الشعوب. وتُعدّ سمة أساسية للحداثة. أمّا أصلها فمشتقّ من الكلمة اليونانية Diploma المأخوذة من الفعل Diplom وتعني الوثيقة التي تصدر عن أصحاب السلطة والمسؤولين السياسيين للمدن وتمنح حاملها امتيازات وحصانات خاصّة. يُشكّل ممثّلوها أكانوا وزراء خارجية أم سفراء أم قناصل رفعة في المجتمع السياسي. يتمتّعون بمزايا شخصية، تتعلّق في الثقافة العامة والسلوكيات والأنماط والتواصل والأذواق العالية.
ولكلّ دبلوماسيّ مهاراته الخاصة. بعضهم يتميّز بنشاطه المتنقّل بين المسؤولين والسياسيّين كالمنسّقة الخاصة للأمم المتحدة يوانا فرونتسكا. البعض الآخر يكتفي بالرسائل والإتصالات والزيارات البروتوكولية الكلاسيكيّة.
أما سفير المملكة العربية السعودية في لبنان وليد البخاري، فيغرّد في أسلوب متمايز عن باقي الدبلوماسيين كما عن أسلافه السفراء. رغم أن مواقف المملكة وسياساتها جليّة وصريحة، يُطلق سفيرها الرسائل السياسية من بين السطور. يستخرجها من حقيبته الأدبية والشعرية والبلاغية. كتاباته تحثّ الذهن على التفكير والتدقيق والتحليل. إنّها لغة الغموض لدبلوماسية واضحة.
أمام تلميحاته وإشاراته، يتنافس المهتمّون على فهم المقصد والمُستهدف. في أحسن الأحوال ومن أجل استخراج السهل من المُعقّد، والخلاصة من المحتوى، يمكن اعتماد المثل اللبناني البيروتي الشهير في تغريدات البخاري: «كلّ مين في مسلّة تحت باطو بتنعرو». و»نعرات» الدبلوماسي المشفّرة غير مستحيلة على السياسيين اللبنانيين في فكّ رموزها وسهامها. فهم بارعون في فنّ التعقيدات وتأزيم حياة المواطنين وتنغيص عيشهم.
وفي آخر تغريدة له، قال: «ظاهرةُ التقاءِ الساكِنَينِ في الِاستِحقَاقَاتِ البُنيَوِيّةِ تَقتَضِي التَّأَمُّلَ لتكرارِهَا نُطقًا وإعرابًا، وخلاصةُ القولِ هُنَا: إذا التَقَى سَاكِنَانِ فيتمُّ التخلّصُ من أَوَّلِهِمَا؛ إمَّا حذفًا إذا كان مُعتلًّا، أو بتحريكِ أحدِهمَا إن كان السَّاكنُ صحيحًا…»
إزاء هذا النصّ تكمن التحليلات ومفاتيحها: من المقصود بالساكنين ومن أوّلهما؟ أيّهما الصحيح والمُعتلّ؟ من يجب حذفه أو التخلّص منه؟ وهل «الإستحقاقات البنيويّة» دلالة على الإستحقاق الرئاسي؟
أسلوبه الدبلوماسي يحمل في طيّاته مؤشّرات اللحظة السياسية وارتداداتها الآتية. فعندما كتب في 29 تشرين الأوّل2021: «تُعْتَبَرُ النُّقْطَةُ (.) على السَّطْرِ الرَّمْزَ الأعْظَمَ في النصّ»، كانت تغريدته إعلاناً مسبقاً عن إجراءات المملكة تجاه السلطة السياسية اللبنانية بعد الإساءات التي تعرّضت لها، عقب تصريحات وزير الإعلام الأسبق جورج قرداحي حول حرب اليمن.
وإذا كان الردّ المباشر هو الأكثر تحدّياً في المجابهة السياسية، فـ»البخاري» له دبلوماسيته غير المباشرة والأكثر شراسة، معتمداً الردّ المقنّع باستحضار شخصيات تاريخية، تدفع المتابع إلى تفعيل محرّكات «غوغل»، كتغريدته التالية «أحفاد أبي رُغال العصرِ كائنات مُضرَّة، غايتُها الإنتقامُ من الحيَاة». وقبل التدقيق في الجهة المستهدفة، لا بدّ من السؤال: من هو أبو رُغال؟ وبعد بحث سريع يتبيّن أنّه «شخصية عربية حقيقية توصف بأنها رمز الخيانة، حتى كان ينعت كل خائن عربي بأبي رُغال».
الخلاصة، وبعيداً عن المواقف السياسية وتموضعها وأبعادها المحلية والإقليمية، المؤيّدة والمعارضة، لا بدّ من الإعتراف بأن أسلوب البخاري، سيبقى محفوراً في قاموس اللغة الدبلوماسية التي يتقن أبجديتها وقواعدها. تغريداته محطّ تدقيق من جانب المؤيدين والخصوم، تعكس سعة ثقافته وسيرته المهنية…