Site icon IMLebanon

التغريد ضد العنف

في الذاكرة جزء نبيل، هو المحوّل إلى النسيان. لولاه لَعاش الإنسان في عذاب ويأس وفيْض من غريزة الثأر. “الإنسان نسّى”، كانت جدتي تقول، فيما يؤرقها الشطَط البشري في عالَمين، واحد تسمع عنه في الأخبار، وآخر في الأقوال. عاشت أكثر من تسعين عاماً، وهي تسبِّح الله على نِعَمه، وأهمها النسيان، كان يشقيها أن يبقى الإنسان غارقاً في ضنك أحزانه وضنى ذاكرته.

لم أكن بين الذين تذكّروا 13 نيسان. أنا من الذين يريدون نسيانه، وما تلاه، وما ظهَر بَعده، لأنني كنت أدرك أنه موعد طويل مع الهدم، وأننا لن نقوم من ركام الأسس ورماد الأواصر. وكنت أعرف أنها حرب على الحرية، وأتذكّر كلمات مفكّر مصر أحمد لطفي السيد: لا إنسان حراً في أمّةٍ غير حرّة.

كان في لبنان فائض، أو بالأحرى، فيضان من الحريات، فيما كانت بقية الدول ترفعها كشعار وتعمّقها كسجون. وقرّروا أن يُغرقوه في فيضه. هذا وباء، لا يمكن التلقيح ضده، لذا، يجب أن يُقضى عليه. الخسائر والضحايا، مجرّد تفصيل، أو فاصلة، لا ضرورة لها.

في 13 نيسان 2015 توقفت عند جديد واحد: تغريدة وليد جنبلاط إلى وليّ عهده تيمور: كل شيء إلا العنف. تعوّدنا في الآونة الأخيرة أن نتابع “تغريدات” وليد بك بحثاً عن اللطائف السياسية، أو المفاكهات في زمن متجهّم. نبْذ العنف حدث سياسي مفصلي. الرجل الذي ورث كمال جنبلاط ولبنان في ذروة القتال، يريد أن يسلّم ابنه الزعامة الدرزية انطلاقاً من تاريخ جديد، ليس فيه من ذكريات القرون الماضية شيء أو أكثر.

لا أحد يمثّل المحنة العربية الوجودية في القرن الماضي مثل وليد جنبلاط. ربما هناك أسماء أخرى ، وربما كانت كثيرة. لكن أحداً منها لا ينتمي إلى تلك الاستمرارية الطويلة من الزعامات والصراعات والبقائيات، وما رافقها من عواصف وهبوب. وليد جنبلاط لم يرث الزعامات الجنبلاطية المتلاحقة، بل اختلف إرثه كثيراً لأن المورِّث المباشر كان كمال جنبلاط. وكمال جنبلاط لم يكن “زعيم الجبل”، ولا “زعيم الموحّدين” بل تحوّل احدى قامات الاشتراكية العربية، وأحد أركان المرحلة العروبية، ولم يعد معه الموحّدون فريقاً صغير العدد في سوريا وفلسطين ولبنان، بل أصبحوا فريقاً له صدى في مصر، ورجْعٌ في العراق، وانتباه في بلاد المغرب.

لم يكن وليد جنبلاط مستعداً للإرث عندما اغتيل “المعلّم”. فما كان أحد يتوقّع أن يبلغ الصراع على لبنان إلى هذا المدى. وما كان أحد يخطر له مجرد خاطرة أن أعمدة مثل كمال جنبلاط والإمام موسى الصدر، سوف تغيب قبل انقضاء العقد الأول من الحرب. دخَل وليد جنبلاط دوّامة الأمر الواقع. والأمر الواقع كان عنفاً وقتالاً وحرباً وأهوالاً. ولست أريد أن أبحث عن مبرّرات له، ولا لأي فريق، أو شريك، أو مشارك، في ذلك الدمار، لكن ليس من الممكن أن نتجاهل أنه الزعيم الأول الذي اعتذر عنها. صحيح أنه لم يستخدم تعبير الاعتذار، أو أنه لا يستطيع ذلك لألف سبب جوهري، ولكن خلف التغريدات المازحة، أو الكئيبة، يختفي رجل شجاع، يحاول التخفّف من بعض أثقال الماضي.

بالمزاح، ألغى الشركة الطويلة مع الروس. ذلك العهد الطويل الذي بدأ أيام كمال جنبلاط و”وسام لينين”، أعلى الأوسمة السوفياتية. أنهاه وليد جنبلاط بالحديث عن متعة الروس في تبادل أنخاب الفودكا في أي محادثات يعقدونها، بحيث تكون الكلمة الأخيرة لها. أي للفودكا المثلّجة، ستولشنايا.

جميل أن ننسى، لكن تذكُّر الكوارث عادة عربية ثابتة. أربعون عاماً بقينا نتذكّر “النكسة”. أي النكبة التي مدّت الاحتلال من فلسطين إلى سوريا ومصر والأردن ومعها جميعاً، القدس. في كل 5 حزيران كانت الصحف تمتلئ بالنحيب والنواح والشتائم والاتهامات والإهانات و… البحث عن طريق جديد لتحرير فلسطين. إن لم يكن من جونيه، فمن الكويت. يا عمي شو فيه بجونيه!.. اتركوا الجماعة مبسوطين. وعنا ضيوف أجانب.

هل لاحظتم هذه الظاهرة؟ دائماً نريد أن نحلّ المشاكل عند سوانا؟ دائماً مرابعنا في بلاد غيرنا؟ قبل أن يتعرّف القذافي إلى خريطة ليبيا وتاريخها، قيل له إذا أردت أن تتحكّم بخرائط العرب ليس لك سوى بيروت. إنها استوديو الإعلام العربي، وصحافته، وعند اللزوم مفرزته القتالية. يا له من ثمن لا تكفّ بيروت عن دفعه. أنتِ يا بابل العصر، يا بَلْبَلةَ اللهجات واللغات، يا حاملة الدفاتر والأقلام والمحابر والمنابر. غبّ الطلب وقياس المطلوب.

يعذرني وليد جنبلاط وهو يلعن العنف على عتبة التقاعد السياسي. لقد لعنه كمال جنبلاط وهو في بدايات العمل السياسي. في محاضرة بالفرنسية (الندوة اللبنانية 1954) اختار المهاتما (الروح السامية) غاندي نموذجه وموضوعه. الحق عند غاندي هو الإنسان، والحقيقة هي الإنسانية. وإذا كان لنا أن نُعطي المسألة تفاسيرَ محتملة، فقد كان “المعلم” يبحث يومها عن نموذج خارج الشرق والغرب وجرائم الحرب العالمية الثانية وإباداتها. وجَد في الهند، المتحرّرة حديثاً من الاستعمار، عالمه الفكري، ووجَد في فلاسفتها أبعاده الأفلاطونية ومسالك العقل. وكان لا يزال يخاطب الناس بالفرنسية، فليس كميل شمعون أفضل منه، ولا داود عمّون، ولا عموم الموارنة.

لا شك في أن فرنسوا هولاند، الرفيق في “الاشتراكية الدولية” وجد في فرنسية وليد جنبلاط، لغة القصور، لا لغة المدارس. لغة المربّين والمربّيات. في المختارة فقط التقى هذا المزيج من العناصر: القصر والمقرّ الاشتراكي. غاندي والحرب، ثم نبْذ العنف في 13 نيسان. الفرنسية كلغة قصور والاشتراكية كرفقة أحزاب. العام 1982 أمضيت نحو ساعتين في الكي دورسيه مع كلود شيسون، واعتقدت أنه صعب عليّ الفهم عندما راح يتحدّث عن Notre camarade Walid وعن التلاقي السياسي معه. واتضح الأمر بعد قليل عندما قال إنه سوف يلتقي الرفيق وليد قريباً في مؤتمر الاشتراكية الدولية.

في السلام والحرب، غاندي والعنف ونبْذ العنف، كان واضحاً أن هاجس سيد المختارة، هو حماية هذه الأقلية النخبوية العددية من الضَياع في بحر الأكثريات. الموحّدون نزعة فكرية تصرّ كتبها الإرشادية على أنها جزء من الإسلام. والإسلام الذي شهد ظهور مذاهب وفِرق عدّة، يرفض أي نَسَب خارج المذاهب الرئيسية. ومن أجل أن يؤكّدوا الإيمان، ذهَب الموحّدون إلى أقصى ما يمكنهم في الإعلان عن اعتبار القرآن مرجعاً أولاً وأخيراً. وساءهم عبر التاريخ أنهم عُرفوا زوراً بالدروز، وهو اسم أحد المنشقّين على الطائفة(1)، وكما حدَث في إعلاء الصوت تأكيداً للنسَب الديني، ذهب كمال جنبلاط إلى الأقصى في تزعّم النداء العربي. وسمّى الموحّدون مَوطنهم “جبل العرب”. وقادَ سلطان الأطرش، الذي سوف يُصبح سلطان باشا، “الثورة العربية” ضد الفرنسيين، ومعه مجموعات كبرى من العرب الآخرين. وهكذا، مشَت مجموعات مختلفة مع كمال جنبلاط في “الحركة الوطنية”. لكن الموحّدين لم يعودوا يريدون أن يكون دورهم، أو مقامهم، فقط في أزمات الاضطراب والصخب. ولا هُم يطمئنون إلى هذا المناخ المريع الذي تُقتلع فيه الأقليات من شروشها الجغرافية وجذورها التاريخية وشرايينها الاجتماعية. وفي أعماقهم غير المعلَنة، يضيرهم انتحار الموارنة، شركائهم الألداء في الجبل ولبنان الصغير. فلا يستطيعون أن يلمعوا إلا في لوحات الفسيفساء، المتعدّدة والمتجانسة معاً.

يمسك وليد جنبلاط في يده أحد مفاتيح الرئاسة ولو بأقلية نيابية. كمال جنبلاط كان يحمل إحدى أوراق الرئاسة بأقلّية أقل. والحرص على هذا النوع من مظاهر القوة، أو النفوذ، هو في العمق جزء من دور الحماية للموحّدين. ليس هناك إجماع من الطائفة على الابن، ولم يكن هناك إجماع على الأب. لكن هناك إجماعاً، ضمنيّاً أو مُعلناً، بين سائر الموحّدين العرب، على “مرجعية المختارة”.

جميع العرب في أزمة اليوم. لكن عرب الأقليات يواجهون، مثل الأكثريات، محنة المصير ودماسة المستقبل. والذين قصّروا في عروبيتهم مثل المسيحيين، أو الذين غالوا بها كالموحّدين، يدركون أن أمام الأقليّات حلاً واحداً في سبيل البقاء: نصيحة وليد جنبلاط لتيمور: شرّان، العنف والجهل.