Site icon IMLebanon

اتفاقان يوناني وإيراني يُعيدان الاعتبار للسياسة وصعوبتها

يعقّد الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الدول الست بقيادة الولايات المتحدة الاميركية المسائل بالنسبة إلى متعهدي الأنماط «الطفولية المترهّلة» من معاداة الإمبريالية، مثلما يعقّد الاتفاق المالي بين اليونان و«الامبريالية الأوروبية» بقيادة المانيا المسائل بالنسبة إلى مدمني الأنماط التهريجية من معاداة الرأسمالية. لا يعني ذلك أنّ الامبريالية لا تفعل فعلها في السياق الأول، أو أن الرأسمالية على ما يرام في السياق الثاني. ولا يعني ذلك أيضاً أنّ الخيار هو بين رضوخ الشعوب لهذه وتلك، وبين مقاومتها اليائسة والانتحارية لهذه وتلك، ليس الا. فعالم اليوم ليس إملاءات فقط، وفيه متسع كبير لـ«الشطارة» المدركة لحدودها في الزمان والمكان، والمتصالحة مع مفهوم السياسة، والتي تأخذ على عاتقها المخاطرة، لكن ليس بمعزل عن الخبرة والاستشعار، ليس كيفما كان او بشكل أعمى. 

في الحالة اليونانية، ثمة حكومة يسارية منتخبة أساساً كي تقدّم ما عندها من طرح لمعالجة التطور الكارثي لأزمة المديونية العامة واستفحال طلبات الدائنين، والظاهرة السياسية التوليفية «سيريزا» التي شكلت هذه الحكومة، أرادت لهويتها اليسارية أن تكون متجاوزة لمحدودية الاشتراكيات الديموقراطية الاوروبية. كل هذا سمح في نهاية الأمر لليونان بتحسين شروط ثانوية لمسودة الاتفاق المطروحة منذ اشهر، وقد تكون «سيريزا» حققت افضل ما كان يمكن لاي حزب سياسي آخر تحقيقه مع استنهاض لا بأس به للعزة القومية بـ«زفّة أممية»، لكن المؤكد انها لم تحقق ما على أساسه انتخبت، وما على أساسه استفتت الناس، في تلك الواقعة الشعبوية بامتياز، لأن مساءلة الناس في بلد مفقر هل انتم مع المزيد من التقشف هو سؤال اشكالي للغاية، ويزيده اشكالية ان الاستفتاء لم يطرح في «الذهاب والاياب» للمصادقة على ما تم التوصل اليه في النهاية مثلاً (وطبعاً فان اليسار اليوناني ككل ظل يكابر على ازمة تضخم القطاع العام البليد والمنخور فساداً بدل ان يكون ترشيق هذا القطاع العام قضيته، على طريقته، هو أيضاً).

هذا بالنسبة إلى اليونان التي هي جزء من الاتحاد الاوروبي ومنطقة اليورو والشنغن ومن حلف شمال الاطلسي والتي كان للفلاسفة الالمان اكثر من سواهم الباع في حياكة أسطورة انها، اليونان، مهد الحضارة الأوروبية. 

أما بالنسبة إلى إيران، التي كان التاريخ القديم إلى حد كبير هو تاريخ حروبها مع اليونان، والتي تناهض ايديولوجياً وثقافياً الغرب منذ انتصار الخط الخميني في ثورتها الاسلامية، فإن الاتفاق النووي مع مجموعة الدول الست، يأتي كذلك بالنسبة لها بدافع اقتصادي مالي في الأساس، فالوضع خانق، والبلاد لم تنجز ثورتها الصناعية التي تحاكي التصنيع الآسيوي بعد بشكل جدي. 

وقد نجح الديبلوماسيون الإيرانيون في تحصيل افضل الممكن في فيينا، مقارنة باتفاق الاطار، حيث ان التزام إيران بالتنفيذ سوف يكفل لها التنعم برفع العقوبات المالية والاقتصادية والتجارية بدءا من مطلع العام المقبل، لكن الاتفاق النهائي لم يعدّل قيد أنملة الحظر الذي سيستمر على الاسلحة بالنسبة إلى الجمهورية الاسلامية، وخصوصا الصواريخ الباليستية والاسلحة الهجومية، ما يعني، حتى مع احتساب معدل التسرّب من البلدان الشرقية، صعوبة التطور العسكري الإيراني في السنوات المقبلة، وبقاءه في غربة عن التطور التكنولوجي في هذا المجال، إلى ان تقرر إيران التقدم خطوة جديدة باتجاه التصالح مع الغرب.

سيقول قائل ان إيران لا تعتمد على الطائرات والدبابات والبوارج كي يقف بقاء الحظر العسكري حجر عثرة امام طموحاتها، سيما وانها تعتمد على ترسانتها الصاروخية من جهة، ومنظومة الميليشيات التي يقودها الحرس الثوري، وتضم الحشد الشعبي ومتفرقاته في العراق، و«حزب الله» ومتفرقاته في لبنان وسوريا، والحوثيين والتشكيلات الشبيهة. ولا شك ان للميليشيات حيوية لا يمكن ان تضاهيها على ارضها الجيوش النظامية، لكنّ هناك حدوداً لا تستطيع هذه الحيوية القيام به، خصوصاً ان هذه الميليشيات بعكس الجيوش النظامية لا تستطيع ان تستمر في حالة التأهب هذا جيلاً بعد جيل، فإما هي تتحول إلى ما يشبه الجيوش النظامية، وإما تتحول إلى وطأة طفيلية على مجتمعاتها، او تتحلل. 

يسمح الاتفاق لإيران بطاقة نووية للاغراض السلمية، بمقدار من اليورانيوم المخصب، وبالحد من البلوتونيوم، وينبغي قراءته بعناية لفهم إلى اي حد سيعوق البحث العلمي. يتداخل في هذا الاتفاق شبحان: شبح انتداب وكالة الطاقة الذرية على إيران لعشرات السنين الآتية، وشبح انتداب إيران على الجزء الرئيسي من العراق واجزاء من بلدان عربية اخرى لعشرات السنين أيضاً. 

الديبلوماسية الإيرانية، بقدرتها على ترشيد مصالح بلادها في المفاوضات، كانت في وضع حساس، بين ما يريده المرشد والحرس، وبين ما يريده الاميركيون والغربيون. لافت ان محمد جواد ظريف هنا لم يعتمد خطاب الانتصاروية – المظلومية. تحدث عن انتصار مشترك (بين «عدوين»). هذه سابقة. سابقة تعيد الاعتبار للسياسة. 

والحق ان هذا الاتفاق ليس انتصاراً مشتركاً بعد. عدم تغير إيران من داخلها لمواكبته بتطور لسلوكها مع الغرب (وصولاً إلى علاقات ديبلوماسية طبيعية مع واشنطن) ليتشبه بعض الشيء بالصين الشعبية، سوف يؤدي إلى تحول هذا الاتفاق إلى وطأة اضافية. 

خطان في إيران اليوم. احدهما سينظر إلى الاتفاق على انه يحتاج لـ«كفارة ايديولوجية» تعيد التوازن للنظام، وثانيهما ينظر اليه على انه يحتاج إلى ترشيق الايديولوجيا نفسها، كي لا تفسد الافادة منه. هذا يختلف عن الاستقطابات السابقة في النظام الإيراني، التي كان محورها الاختلاف حول متلازمة القيم والاشخاص. 

خطان بل ثلاثة في التفاعل العربي مع مرحلة ما بعد الاتفاق ايضاً. احدهما يعول على «المال الطاهر الجديد» للاستثمار في النزاعات الاهلية والمذهبية. الثاني يستلب بحتمية ان «إيران هي هي لا تتغير». الثالث يفترض به التفاعل مع الخط المهموم داخل إيران بتسخير المال المفرج عنه لتصنيع البلد وانتشال اقتصاده من الخراب. ليس صحيحاً ان الحوثيين و«حزب الله» والحشد الشعبي يخدمون المصالح الوطنية للإيرانيين في كل الحالات من هذا المنظار. صحيح ان لإيران مصلحة مباشرة في تطويع الكيانية العراقية وضمها تحت جناحها، لكن بالنسبة إلى الكيانات العربية الاخرى، وكلما كانت المسألة «نهوضية» في الداخل الإيراني، كلما كانت السياسات الإيرانية في سوريا ولبنان واليمن عقيمة. لا يلغي هذا ان العراق بالدرجة الاولى سيبقى محور التنازع العربي – الإيراني لسنوات مديدة، لأن المصالح القومية هنا فعلاً متناقضة.