لا جدال في أن لبنان نسيج وحده بين دول العالم قاطبة.
أحدث دليل على ذلك اجتهادان سياسيان تجهد المؤسسة السياسية لإقرارهما بأسرع فرصة ممكنة: قانون انتخاب «جديد» كما يكرر دعاته وتمثيل نيابي للمغتربين اللبنانيين في البرلمان اللبناني.
التركيز الإعلامي على قانون «جديد» للانتخابات كاد يحّول «الجديد» إلى مطلب وطني لقانون «قديم» في كثير من الدول التي يعتمد نظامها السياسي على التنافس الحزبي على السلطة٬ لا الصراع الطائفي على النفوذ٬ كما هي الحال في لبنان٬ وإذا كان ثمة «جديد» في مشروع القانون اللبناني فهو طابعه الهجين الناتج عن محاولته المبتكرة «تطعيم» النسبية بالطائفية في زواج مصلحة لا يخدم مشروع الدولة المدنية٬ على المدى الطويل٬ ولا يحقق النسبية المطلقة٬ على المدى القصير.
إذا كان القصد من طرح النسبية تحسين مستوى التمثيل النيابي للبنانيين٬ فهذا التحسين يبدأ بذهنية المنت ِخب (بكسر الخاء) ومناقبية المنت َخب (بفتح الخاء)٬ وكلاهما خارج عن نطاق النظام الانتخابي المقترح… وعليه٬ كان يكفي لبنان طرح قانون يعتمد الدوائر الفردية أو الصغرى٬ ويبقي النظام الأكثري فيضمن للناخب اللبناني مراقبة أدق لأداء ممثله النيابي٬ ولهذا الممثل اهتماماً حصرياً بشؤون منطقته و«رعيته».
أما الاجتهاد القانوني الأكثر غرابة فهو اقتراح تمثيل المغتربين اللبنانيين في الخارج في البرلمان اللبناني في بيروت.
يشاع في لبنان أن وراء هذا الاقتراح أكثر من هدف واحد. ولكن٬ حتى وإن كان دافعه «رومانسية قومية» في غير محلها٬ يبقى اقتراحاً مجحفاً بحق اللبناني المقيم٬ فالمقيم يدفع ثمن مواطنته كما لا يستهان به من الضرائب٬ فيما سيشاركه في قرار دولته السياسي والاقتصادي مغترب لا يدفع أي ضريبة لبنانية٬ ويستفيد في بلد الاغتراب من تقديمات اجتماعية ما زال اللبناني المقيم محروماً من معظمها٬ مما يجعله ناخباً ممّيزاً عن الناخب المقيم يتمتع بحقوق سياسية لا تقابلها موجبات مادية.
قبل نحو قرنين ونصف القرن انتفض البريطانيون المقيمون في ولاية ماساتشوستس الأميركية الخاضعة للتاج البريطاني آنذاك في وجه حكومتهم البريطانية احتجاجاً على فرضها ضريبة على استهلاك الشاي دون أن يكون لهم تمثيل برلماني في مجلس العموم البريطاني٬ طارحين شعارهم الشهير «لا للضرائب في غياب التمثيل النيابي».
هذه الانتفاضة التي أسست لاستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا العظمى (آنذاك أيضاً) أرست معادلة سياسية مالية راسخة٬ فكما لا ضرائب دون تمثيل نيابي٬ كذلك لا تمثيل نيابياً دون موجبات ضرائبية.
من هنا ضرورة التساؤل: هل تملك الدولة اللبنانية صلاحية تصحيح هذا الخلل التمثيلي بين المغترب والمقيم عبر فرض «ضريبة اغتراب» على كل مهاجر يرغب في المساهمة في حياة لبنان السياسية٬ سواء بالانتخاب أم بالترشح؟ وفي حال أقدمت على فرض ضريبة يستحيل عليها تحصيلها… فكم لبناني مغترب مستعد «للتبرع» بدفعها؟
هذا على صعيد الحقوق والواجبات. أما على الصعيد السياسي فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانت مصلحة المغتربين في مقدمة حوافز دعاة إشراكهم في اللعبة السياسية اللبنانية٬ فلماذا يغامرون بتعقيد إقامتهم في دول الاغتراب وهم يعلمون أن الكثير من هذه الدول يحظر ازدواجية الجنسية٬ ما قد يعرضهم لخسارة إقاماتهم في دول الاغتراب؟
هذا في الظروف العادية. أما في الظروف الراهنة التي أصبحت فيها الجنسيات العربية ومن ضمنها اللبنانية مرادفة للإرهاب في نظر كثير من سلطات الهجرة (أوروبا والولايات المتحدة وكندا…) فإن من مصلحة المغتربين اللبنانيين عدم التورط في الإشكالات الحزبية والمذهبية لبلدهم والمخاطرة بنقل انقسامات الداخل إلى الخارج٬
خصوصاً أن بعضهم يوالي أحزاباً مصنفة «إرهابية» أو محظورة في بلد الاغتراب.
الواقع المحلي في لبنان٬ والإقليمي في المنطقة٬ والدولي في بلاد الاغتراب الرئيسية٬ كلها تستدعي إبعاد المغتربين عن مشكلات لبنان والمنطقة لا ج ّرهم إليها٬ في الظروف الراهنة على الأقل.