في ذاكرة العرب المعاصرة والمحاصرة يحتل شهر نيسان موقعاً بارزاً إذ لا يمر يوم من أيامه إلاّ ونستحضر ذكرى حرب أو معركة أو مواجهة أو استشهاد أو اعتقال أو مجزرة أو محنة شهدتها الأمّة في أحد أقطارها من المحيط إلى الخليج… وخصوصاً في فلسطين وبين أبنائها وقادتها.
ولكن بين أحداث نيسان الأليمة يبرز حدثان لم ينالا ما يستحقانه من قراءة واستخلاص لدروس وعبر، لا بل حدثان ما زالت تداعياتهما مستمرة حتى الساعة، أما بشكل مباشر أو غير مباشر، أما داخل القطر المعني أو على مستوى الأمّة كلها.
أول الحدثين وقع قبل أربعين عاماُ في ضاحية من ضواحي العاصمة اللبنانية، حين أستهدف مسلحون باصاً فيه فلسطينيون ولبنانيون وقتلوا أكثر من عشرين شاباً وكهلاً، لتندلع بعد ذلك ردود فعل أشعلت، مع الوقت، ما يمكن تسميته حرباُ في لبنان وحرباً على لبنان، وقد ظن كثيرون أن نارها انطفأت في اتفاق الطائف عام 1990، لنكتشف فيما بعد أن جمرها ما زال تحت الرماد، وأن تعدّدت ألوانه وأشكاله، وأن شظاياها الطائفية والمذهبية والاثنية قد تناثرت على امتداد المنطقة كلها، لاسيّما في البلدان المجاورة.
أما الحدث الثاني فهو الذي شهده العرب قبل 12 عاماً مع احتلال بغداد، وهي واحدة من أهم عواصمهم العربية وأغلاها عليهم، وذلك حين دخلت دبابات الاحتلال الأمريكي وحلفائه ساحات عاصمة الرشيد وجسورها وأحياءها، وحين دخلت عصابات الاحتلال متحفها التاريخي ونهبت محتوياته (لاحظ متى بدأ نهب الآثار التاريخية والمعالم الحضارية وتدميرها في العراق ثم سوريا)، كما دخلت القصور والوزارات (ما عدا وزارة النفط، والنفط هو الهدف الثاني المعلن للإدارة الأمريكية من حربها على العراق بعد أمن الكيان الصهيوني)، ودمّرت المؤسسات وحلت جيش العراق وقواه الأمنية وأطلقت احتراباُ أهلياً بدأته بدستور طائفي وعمقته بمحاصصة طائفية، ثم “بهندسة” حربا بين العراقيين لوقف حربهم على الاحتلال، وألغت من قاموس السياسة العراقية كل المفردات التي تجمع بين مكونات البلد الواحد، فلم يعد في العراق غير الطوائف والمذاهب والأعراق، ولم يعد العراقي يُصنف إلاً بانتمائه الطائفي والمذهبي والعرقي لتتحول مكونات المجتمع الواحد إلى متاريس قتالية، وأهدافاً لعمليات التفخيخ والتفجير التي انتقم بها المحتل وأدواته من بطولة شعب قاوم الاحتلال بكل بسالة، وأفشل مشروعه الخطير، وهزم جيوشه فمنعه المحتل من الانتصار…
وإذا كان الحدث اللبناني الذي بدأ داخلياً في 13 نيسان 1975، قد تطوّر باتجاه احتلال صهيوني بلغ ذروته مع عام 1982 باحتلال بيروت العاصمة اللبنانية وإدارة أشرس الحروب الطائفية والمذهبية بين اللبنانيين، فإن الحدث العراقي الذي بدأ باحتلال بغداد العاصمة العراقية، قد تطوّر بالمقابل باتجاه إطلاق نزعات غلب عليها الطابع الطائفي والمذهبي والعرقي حتى بات ممكناً لجوزف بايدن نائب الرئيس الأمريكي أن يتحدث اليوم عن “كونفدرالية” بين العراقيين مذكراً بما سبق أن طرحه كمشروع لمستقبل العراق حين كان شيخاً في الكونغرس الأمريكي.
وبهذا المعنى فالحدثان يشتركان في أنهما “ثمرة” تفاعل بين ثغرات في الداخل ومؤامرات من الخارج، ولكنهما يشتركان في أنهما بالمقابل لم يخضعا لتحليل عميق مجرّد من الأهواء والعصبيات والأحقاد، وأن الأطراف المعنية بالحدثين، سواء الداخلية أو الخارجية، لم تقم بالمراجعات النقدية الجريئة لسلوكها لكي تعيد تحصين مجتمعاتها ودولها بما يحميها ويحمي الأمّة كلها من تداعياتها.
لقد هربنا جميعاً في لبنان وخارجه من الإضاءة على دروس الحرب المفروضة علينا وعِبَرها. ومع وقف النار أسدلنا الستار على أخطاء وخطايا وقعنا بها جميعاً، فدمّرنا ما دمرنا من بلادنا، بشراً وحجراً، عمراناً واقتصاداً ونسيجاً اجتماعياً، وسمحنا للرياح الزاحفة إلينا أن تحمل معها سموم تلك الحرب إلى عموم المنطقة، كما سمحنا لقوى الهيمنة وأدواتها أن تعيد صياغة مصطلحات التعريف باجتماعنا ومكوناته، وبدولنا وجهاتها، وغابت العروبة كهوية عن خطابنا والتزامنا، لا بل “نعيناها”أكثر من مرة، ولم نكن نجد حاجة لاستدعائها إلاً بغرض محاربة أمم مجاورة تشترك معنا في العقيدة والحضارة والمصالح والمخاطر، كما غابت الوطنية كرابطة بين أبناء البلد الواحد لصالح عصبيات مدمّرة ومصدّرة لكل الشرور والسموم، بل غيبوا الإسلام الرحب السمح المتنور لصالح فكر تقسيمي وإقصائي وآلة قتل وتفجير وغلو وتوحش وتطرف تعيث في حياتنا فساداً ودماراً.
أما في العراق، فقد هرب المعنيون جميعاً من مراجعة نقدية جريئة سواء لأخطاء مهدت للغزو والاحتلال، أو لجرائم أو مظالم رافقت الاحتلال واعتقد مرتكبوها، والساكتون عنها، أنهم قادرون على أن يبنوا فوق باطل الاحتلال قصوراً لمنافعهم وجسوراُ للعبور نحو تحقيق مصالحهم ومشاريعهم سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية.
وكما قلنا، ونقول في أكثر من مناسبة، وآخرها في الدورة الأخيرة للمؤتمر القومي – الإسلامي المنعقدة في بيروت يومي 28 و 29 آذار/مارس 2015،، أن ما نشهده من محنة عربية كبرى ممتدة في المكان والزمان، إنما بدأت مع احتلال العراق والطريقة التي تعاملنا فيها مع ذلك الاحتلال، فهرع بعض “مثقفينا” إلى التنظير للاحتلال وتبرير الحرب، فيما سارع بعضنا الآخر إلى الاعتراف بالاحتلال ونتائجه والتعامل مع إفرازاته، فسقطت المحرّمات، وباتت الوطنية وجهة نظر، وسادت الازدواجية في المواقف، وبات المشهد كله ضبابياً غائماً لم يعد فيه بوصلة تحدد الاتجاه السليم، ومعيار مبدئي تقاس بمقياسه المواقف.
وحين تصبح الضبابية سائدة، والازدواجية في المعايير سيّدة، والضياع مخيماً على العقول والنفوس، لا تجد الناس مفراً من العودة إلى عصبياتها التقليدية، عصبيات ما قبل الوطنية والعروبة والإسلام والإنسانية، فيصبح القتل احترافاً، والنحر فخراً، والحرق سبيلاً للتباهي، كما نشهد اليوم.
ولا داعي للتفصيل أكثر، لكن أقلّ ما هو مطلوب منا، جميعاً أفراداً وجماعات، أحزاباً وحكومات، أن نعيد قراءة المشهدين “النيسانيين” اللبناني والعراقي، وأن نمتلك الجرأة لكي يقوم كل منا بنقد تجربته، قبل الاسترسال بنقد غيره، فنضع أنفسنا ومجتمعاتنا على طريق المصالحة الشاملة، والمشاركة الحقيقية، وكلاهما مع المراجعة ثالوث القوة التي تقوم عليها المقاومة الواسعة للاحتلال وإفرازاته، والهيمنة الاستعمارية ومشاريعها.