تعامل الوزير جبران باسيل مع الانتخابات النيابية بوصفها أوّلَ استحقاق بهذه الأهمية يتولّى شخصياً إدارته والإشراف عليه، وبالتالي أراد من وراء الانتخابات أن يعمل على هدفَين أساسيَّين.
إنتقالُ رئاسة «التيار الوطني الحر» من العماد ميشال عون إلى الوزير باسيل خطوة كلاسيكية ما لم ينجح الأخير في أن يتحوّل من مجرد رئيس للتيار إلى شخصية لها رمزيّتها لدى الجمهور العوني، الأمر الذي ليس بالبساطة التي يمكن أن يتصوّرها البعض كون الرئاسة شيئاً، والزعامة شيئاً مختلفاً تماماً، وما يحتاج إليه باسيل هو الزعامة لا الرئاسة، وهذا الهدف الأول الذي يعمل عليه.
ويعلم باسيل أنّ العماد عون قادرٌ على ترئيسه «التيار الوطني الحر»، وهذا ما فعله، ولكنه غير قادر على «تزعيمه»، أي تحويله إلى زعيم بنظر الجمهور العوني العريض، لأنّ للزعامة مواصفاتٍ وشروطاً ومتطلباتٍ تتجاوز رغبة عون وتتّصل بشخصية باسيل ونظرة الرأي العام لشخصه.
ومن هذا المنطلق بدأ باسيل يعدّ العدّة للزعامة من أجل تأبيد الرئاسة بعد العمر الطويل للرئيس عون، وكل هذا المسار يحصل بإشراف ومتابعة الرئيس المؤسّس للتيار العوني من أجل وراثة فعليّة للحالة السياسية وليس فقط لرئاسة تيار سياسي.
وهذا ما يفسّر المواجهات الدونكيشوتية التي خاضها باسيل في أكثر من اتّجاه معتقداً أنّ طريق العبور إلى الزعامة يكون من خلال شدّ العصب السياسي وتصوير بأنه مستهدَف من جهة، وأنه قادرٌ على مواجهة الجميع من جهة أخرى.
ونظرة سريعة للواقع السياسي كفيلة بتأكيد ما تقدّم، خصوصاً أنّ أحداً لا يخوض المعارك على الطريقة الباسيلية في اشتباكٍ سياسيٍّ ّمع أكثر من طرف وفي الوقت نفسه، فيما معظم القوى السياسية تدير اختلافاتها بعيداً من الصدام او الاستفزاز السياسي، وإذا ما استثنينا الخلافَ المستعصي المتصل بسلاح «حزب الله» ودوره، فإنّ التباينَ في الملفات الأخرى يُدار تحت سقف المؤسسات، وبالتالي لا مبرّرَ للتوتر وشدّ العصب والكلام المتفلّت بالشكل الذي هو سائد.
فالنائب المنتخَب يعتقد أنّ المدخلَ لمشروعيّته داخل البيئة العونية يكون بشدّ العصب والخصومة السياسية إلى جانب قدرته على تحقيق الانتصارات السياسية التي يحققها باتّكائه على الرئيس عون، حيث إنّ مَن يقترع لـ»التيار الوطني الحر» لا يقترع اليوم لسياسات الوزير باسيل، إنما يقترع لعون أوّلاً ومن ثمّ للعهد بما يمثِّل مِن فرص وأبواب مفتوحة للتوزير والخدمات والسلطة والنفوذ.
ولا شك أنّ الرئيس عون أراد أن تُظهر هذه الانتخابات بأنّ باسيل قادرٌ على تحقيق الانتصارات والوصول إلى تكتّلٍ نيابيٍّ محترَم من أجل أن يدخل في وعي واللاوعي العوني أنّ باسيل قادرٌ على تحقيق الانتصارات، علماً أنّ باسيل يستفيد من رصيد الرئيس عون ووجوده على رأس الجمهورية وفي وجدان الحالة العونية.
فالهدف الأول لباسيل إذاً هو السعي للزعامة بالتكافل والتضامن مع عون، ومن الصعوبة بمكان تقدير من اليوم نجاح باسيل أو فشله، علماً أنّ هدفاً من هذا النوع صعبُ المنال في الظروف الحالية، فضلاً عن أنّ الزعامة هي «قماشة» والشخص إما يكون زعيماً أو لا يكون، وهذا الأمر لا يشكّل انتقاصاً من أحد كونه مرتبطاً بالتكوين الذاتي لكل شخص.
وأما الهدف الثاني الذي يسعى إليه باسيل فهو رئاسة الجمهورية، وطبعاً بالتكافل والتضامن مع الرئيس عون، ولا يخفي باسيل هذا الأمر، بل يعتبر أنّ الأكثرَ تمثيلاً مسيحياً يشكّل الطريق لولوجه القصر الرئاسي، وعلى هذا الأساس خاض الانتخابات النيابية، وليس عن طريق الصدفة رفض التحالف مع «القوات اللبنانية» وقوى سياسية مسيحية أخرى، إنما خاضها تحت هدف تحجيم أخصامه من أجل أن يتربّع على أحادية مسيحية، ولكنّ الرياح لم تجرِ كما يشتهي باسيل، فجاءت نتيجة الانتخابات لتفرز ديموقراطياً ثنائية حزبية مسيحية، وهي ثنائية تنافسية لا تحالفية.
ولكن ما غاب عن ذهن باسيل أنّ مسار الزعامة يصطدم بمسار الرئاسة، لأنّ اصطدامه بأكثر من فريق سياسي تحقيقاً للمشروعية السياسية ولّد نقزةً سياسيةً من سلوكه وممارسته لدى مَن يُعتبر مِن أقرب المقرّبين إليه، فكيف بالأبعدين، وهذه النقزة تُرجمت في أكثر من موقفٍ واتّجاه لدى الثنائية الشيعية وتحديداً «حزب الله» الذي كان من أبرز القوى التي دعمت انتخابَ العماد عون، ولا يبدو أنه في وارد تكرار الأمر نفسه مع باسيل.
وقد يعتقد باسيل أنّ لديه وقتاً كافياً لترميم ما تصدّع مع «حزب الله»، وأنّ مسار الزعامة يفرض عليه الاشتباك السياسي تمهيداً للدخول في مسار الرئاسة، وذلك في استتنساخٍ للمسار الذي سلكه العماد عون من دوره كرأس حربة إلى جانب الحزب بدءاً من 6 شباط 2006 إلى تحوّله حالةً وسطية قادت إلى الانفتاح عليه وانتخابه، ولكنّ عون ليس باسيل، والظروف التي حملت عون إلى بعبدا يستحيل أن تتكرّر مع باسيل.
وفي الوقت الذي خاضت فيه كل القوى السياسية مواجهاتها الانتخابية من أجل تحسين تمثيلها النيابي ومواصلة مشروعها الوطني والسياسي، قاد باسيل الانتخابات من أجل انتزاع الزعامة وفتح طريق القصر الجمهوري، وقد دلّت هذه السياسة على نقزتين أساسيّتين: نقزة لدى الرأي العام الذي لا يستهوي المقاربات الاستعلائية والفوقية، ونقزة لدى القوى السياسية من سلوكٍ وممارسةٍ لا تستقيم ولا تنسجم مع المواصفات المطلوبة رئاسياً.