ما قبل الانتخابات النيابية في لبنان والعراق غير ما بعدها. لم يكن الاستحقاق هو المشكلة. فالقوى نفسها التي كانت، لم تغب عن الصورة، وإن تبدلت التحالفات، والأحجام تالياً. وقدمت الحصيلة خريطة معقدة ستبنى عليها الحكومتان الجديدتان في هذين البلدين. لكن هذه ليست العقدة الأساس. فقيام التشكيلتين الوزاريتين في بغداد وبيروت محكوم أكثر من أي وقت مضى بالمواجهة المتصاعدة إقليمياً ودولياً بين واشنطن وطهران. الجنرال قاسم سليماني يخوض في عاصمة الرشيد صراعاً لإعادة جمع شمل «التحالف الشيعي»، وقطع الطريق على الكتل التي تناوئه أو تتمرد عليه وحرمانها من كرسي الحكم. بينما تستعجل إدارة الرئيس دونالد ترامب بناء تحالف واسع ضد إيران ونشاطاتها السياسية في المنطقة العربية وبرنامجها الصاروخي. وهو ما يتوقع أن يكون نواة استراتيجية جديدة حيال الإقليم قد يقدمها اليوم وزير الخارجية مايك بومبيو. وإذا كان بريت ماكغورك، مبعوث الرئيس الأميركي إلى التحالف الدولي للحرب على الإرهاب أول السباقين إلى الساحة العراقية بعد إقفال صناديق الاقتراع، فإن حزمة العقوبات الثالثة التي فرضتها الولايات المتحدة مع شركائها في «مركز مكافحة الإرهاب» في الرياض على قيادات «حزب الله» استبقت أيضاً المسار الدستوري لتأليف وزارة لبنانية جديدة.
ثمة فوارق بين ما يجري في العراق وما يجري في لبنان بعد الاستحقاق الدستوري في كلا البلدين. لكن ما يربط الشأنين أنهما جزء لا يتجزأ من المواجهة الواسعة بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة والتي ارتفعت حدتها بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي. واتسع مسرحها من المشرق العربي وشبه الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا حيث أعلن المغرب قطع علاقاته مع الجمهورية الإسلامية متهماً إياها و «حزب الله» بدعم جبهة «بوليساريو»، بتدريب عناصرها وتسليحهم عبر سفارتها في الجزائر. المرحلة الجديدة التي أطلقتها الانتخابات في كل من لبنان والعراق ستحدد ملامحها الحكومتان المقبلتان. أفرز الاستحقاق الدستوري خريطة أحجام جديدة سيكون لأصحابها دور وصوت. وإذا كان المشهد السياسي في بغداد غيره في بيروت، فإن طهران تجهد لتوكيد حضورها في صدارة هذا المشهد، وحجز موقعها المتقدم في إدارة الحكم من خلال الوزارتين الموعودتين. لكنها تواجه هذه المرة إدارة أميركية وقوى غربية وعربية تسعى إلى تقليص نفوذها ووقف تدخلاتها في المنطقة. ولا شك في أن شكل الحكومتين سيؤشر إلى ميزان القوى لهذه الأطراف المتصارعة.
يبدو سهلاً أن تُجمع الكتل في البرلمان اللبناني، أو معظمها، على إعادة تسمية سعد الحريري لتأليف الوزارة. أما «حزب الله» فربما اختار تموضعاً آخر بالامتناع عن تسميته، كما حدث في السابق. لكنه لن يسكت أو يستكين بعد العقوبات الأميركية – الخليجية الأخيرة على قيادته السياسية. سيطرح شروطاً ويرفع مطالب لن تكون يسيرة على زعيم تيار «المستقبل». فالحزب لن يتنازل بالطبع عن حصته في الحقائب، ولن يتهاون في تحييد دوره في رسم السياسة المقبلة، داخلياً وخارجياً. وسيدفع بحلفائه ومنافسي الحريري من السنة خصوصاً أو سيدعمهم في السعي إلى حجز حصتهم الوزارية بعدما نال هؤلاء نحو ثلث مقاعد السنة. وهو بدأ يتحدث، في ظل موازين القوى الجديدة في البرلمان المنتخب، عن «السياسة الدفاعية» مستعجلاً إرساءها استناداً إلى رؤيته، إذا لم يهتز تحالفه مع «التيار الوطني الحر»، ولم تتبدل سياسة العهد.
هذا يعني أن مسيرة التأليف ستكون شاقة. ولن يكون سهلاً على الرئيس المكلف السير على خطين مستقيمين لا يلتقيان. لا يمكنه تجاهل تداعيات العقوبات الأميركية – الخليجية على الحزب وإيران، والأهداف من ورائها. والسؤال هنا هل ستظل سياسة النأي بالنفس خياراً متاحاً؟ أما أن يحفظ الحريري مثلاً ورقة التكليف ويستمر على رأس حكومة تصريف الأعمال بانتظار نضج الظروف وتذليل العقبات لتقديم تشكيلته فأمر قد يطول أشهراً. ولن يرضى رئيس الجمهورية باستنزاف عهده في هذه الظروف الدقيقة… بل هو يستعجل حكومة وحدة وطنية لا تستثني مكوناً أو طائفة او مذهباً. ولكن لا يُعرف كيف ستتعامل معها الولايات المتحدة ودول الخليج وبين أعضائها ممثلون لـ «حزب الله» الحاضر في كل المؤسسات! بل لا يُعرف كيف ستوفق هذه الدول بين مواصلة دعمها لبنان وحكومته ومؤسساته العسكرية والأمنية من جهة، والسعي إلى محاصرة قادة «حزب الله» من جهة أخرى؟ هل تستمر في نهج الفصل بين الحزب وباقي القوى التي تتشارك معه في الحكم وإدارة المؤسسات؟
الانتخابات البرلمانية في العراق لم تلق إقبالاً، كما حدث لهذا الاستحقاق في لبنان. وهو دليل قاطع على اعتراض الناس العاديين على النخب التي تستأثر بالحكم والسلطة، ويأسها من القدرة على التغيير عبر الصناديق. ولكن على رغم ضعف الإقبال على الاقتراع، تبدلت خريطة القوى. لم يعد الأمر كما في السابق يقتصر على كتلة كبيرة يحتضنها التحالف الشيعي في مواجهة ائتلاف «العراقية» الذي يقوده إياد علاوي وهو تكتل عابر للمذاهب. رسخت نتائج الانتخابات الأخيرة انقسام القوى الشيعية وانفراط تحالفها. مثلما كرست الانشقاقات التي ضربت التكتلات الأخرى السنية والكردية وغيرها. لذلك، كثرت الاعتراضات على النتائج التي تأخر إعلانها. وعلت أصوات المعترضين هذه المرة مطالبين بإلغاء الاستحقاق والعودة مجدداً إلى انتخابات «أكثر شفافية»! لكن هؤلاء أنفسهم يخوضون في المقابل مساعي محمومة من أجل تشكيل التكتل الأكبر الذي سيكلف تأليف الحكومة الجديدة. فللمرة الأولى ليست هناك كتلة كبيرة أو كتلتان تحوزان العدد المطلوب من النواب وهو أكثرية أعضاء المجلس، أي ما يتجاوز نصفهم بواحد (165 نائباً) أو أكثر. وليس ما يشير إلى نجاح كبير سيحققه الجنرال سليماني الذي أوفدته طهران إلى بغداد في تدارك تداعيات تراجع أقرب حلفائها، أو في بناء تحالف واسع يقطع الطريق على دور مقتدى الصدر في تحديد شكل الحكومة المقبلة.
تقدم تيار «سائرون» الذي قاده الصدر هزّ كرسي سليماني في بغداد. لكنه لا يعني أن إيران باتت «برا» كما نادى وينادي كثير من القوى العراقية. صحيح أن نوري المالكي حليفها الأول تراجع كثيراً أمام خصميه اللدودين حيدر العبادي الذي انتزع منه كرسي الحكومة في العام 2014، والسيد مقتدى. لكن الصحيح أن تحالف «الفتح» (الحشد الشعبي) حقق نتائج أفضل من «دولة القانون» واقترب من الموقع الثاني. والصحيح أيضاً أن كل الحكومات التي أدارت البلاد بعد الغزو الأميركي في العام 2013 كانت وليدة تفاهم بين واشنطن وطهران. بل كانت للأخيرة الكلمة الفصل في التجديد للمالكي ولاية ثانية في العام 2010، متجاوزة إياد علاوي صاحب الكتلة الأولى في انتخابات ذلك العام. ومتجاوزة رغبة إدارة باراك أوباما ودول عربية كانت ترغب في تولي زعيم «العراقية» التشكيلة الوزارية. والسؤال هل ستتمكن القوى السياسية من وقف مثل هذا التدخل اليوم؟ وهل سيتمكن الصدر وشركاؤه من بناء تحالف تكون له الأكثرية ويكون قادراً على التحرك بعيداً من نفوذ إيران والولايات المتحدة؟
واضح أن واشنطن ترغب في بقاء العبادي على رأس الحكومة بالتحالف مع التيار الصدري وقوى أخرى بعيدة من محور إيران. لكن هذه ستكون حاضرة ولا يمكن تجاهل قدرة مناصريها وميليشياتها ونفوذهم. فهل يفرض هذا الحضور نفسه في ترسيخ سياسة «النأي بالنفس» التي يرددها العبادي كلما احتدم الصراع بين واشنطن وطهران؟ وهل يعود الجميع إلى صيغة المحاصصة بقيام حكومة شاملة لكل القوى على اختلاف توجهاتها؟ دفعت الاحتجاجات الشعبية في السنتين الأخيرتين معظم القوى والأحزاب الدينية إلى تبديل شعاراتها، وخلع عباءتها، خصوصاً في الحملة الانتخابية الأخيرة. نادت بمناهضة نظام المحاصصة بعيداً من الطائفية والمذهبية، ومحاربة الفساد. وهي الشعارات التي رفعها التيار الصدري وشركاؤه من قوى وأحزاب علمانية. ولا شك في أن العودة إلى هذا النظام الذي أتاح تقاسم النفوذ والثروات ستدفع بالعراقيين مجدداً إلى الشارع لعزل الحكومة. علماً أن قوى في «سائرون» لا يروق لها التجديد للعبادي الذي تأخذ عليه عجزه عن تحقيق الإصلاحات والخروج من أسر التدخلات الخارجية.