هناك تاريخان لبنانيان مرتبطان بشهر تشرين الاول- اكتوبر الجاري وبرئيس الجمهورية الحالي العماد ميشال عون تحديدا. هناك بالطبع تواريخ لبنانية وعربية أخرى مهمة ذات علاقة بهذا الشهر. لكن من المفيد في هذه الايّام التوقف عند الثالث عشر من تشرين الاوّل 1990 والواحد والثلاثين من الشهر عام 2016. تاريخ سقوط قصر بعبدا تحت الوصاية السورية وتاريخ انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية.
في 13 تشرين الاوّل من العام 1990، استطاع الجيش السوري التابع لنظام حافظ الأسد دخول القصر الرئاسي في بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية في اليرزة بعد حصوله على ضوء اخضر أميركي واسرائيلي سمح لسلاح الجو السوري بالاغارة على القصر الرئاسي اللبناني.
قاوم الجيش اللبناني ببسالة محاولا وقف تقدّم السوريين في اتجاه قصر بعبدا، في حين انتقل الجنرال ميشال عون الجالس في القصر، منذ أيلول – سبتمبر 1988، بصفة كونه رئيسا لحكومة موقتة، الى منزل السفير الفرنسي في الحازمية. كانت لهذه الحكومة مهمة محددة هي انتخاب رئيس للجمهورية في ضوء انتهاء ولاية الرئيس امين الجميل. لكنّ كلّ المحاولات لانتخاب رئيس فشلت، الى ان جاء اتفاق الطائف في أيلول – سبتمبر 1989، وهو اتفاق لم يقبل به ميشال عون، كما لم يقبل به “حزب الله” الطامح الى تدمير النظام في لبنان تدميرا كاملا من اجل إقامة “جمهورية إسلامية” فيه. هذا ما كان يقوله الأمين العام للحزب حسن نصرالله الذي كان يرى، وقتذاك، في هذه الجمهورية التي يتحكّم بها “الوليّ الفقيه”، من طهران، الحلّ الأنسب للبنان واللبنانيين مسيحيين ومسلمين.
في الوقت ذاته، لم يكن النظام السوري راضيا عن اتفاق الطائف. انقلب عليه في الثاني والعشرين من تشرين الثاني – نوفمبر 1989 عندما اغتال الرئيس المنتخب رينيه معوّض الذي كان يمثل روح ذلك الاتفاق على حقيقتها. كان هدف النظام السوري الاتيان برئيس لبناني ضعيف يستخدم في معظم الأحيان في اضعاف رئيس مجلس الوزراء السنّي وتعطيل مهمته والوقوف في وجهه.
هذا ليس وقت العودة الى الظروف التي رافقت انتقال ميشال عون الى منزل السفير الفرنسي رينيه آلا في الحازمية. لكنّه وقت العودة بالذاكرة الى تلك الايام التي سبقت سقوط قصر بعبدا تمهيدا لوصاية سورية كاملة على لبنان.
يعود سبب سقوط قصر بعبدا ووزارة الدفاع الى سبب أساسي. يعود هذا السبب الى العجز عن قراءة التوازنات الإقليمية والتعاطي معها بمرونة وذكاء بما يخدم مصلحة اللبنانيين عموما، بدل تهجير اكبر عدد من المسيحيين من البلد. كان الولد الصغير يعرف وقتذاك ان صدّام حسين انتهى في اليوم الذي دخل فيه اول جندي عراقي الى الكويت في الثاني من آب – أغسطس 1990. كان صدّام منتهيا أصلا نظرا الى انه لم يستوعب الأسباب التي مكنته من تحقيق شبه انتصار على ايران في حرب السنوات الثماني. لم تكن حاجة الى الاستناد اليه من اجل مواجهة الطائف او النظام السوري. لم تكن الدبابات التي ارسلها الرئيس العراقي وقتذاك الى لبنان، عبر الأراضي التركية، ثم عبر البحر، والتي كشفت عليها إسرائيل قبل السماح لها باكمال طريقها الى لبنان صالحة لاي شيء. بل كانت صالحة لمقاتلة “القوات اللبنانية” في وقت لم تكن من حاجة الى تلك الحرب المسيحية – المسيحية العبثية التي تبدو انّها ما زالت مستمرّة الى اليوم… من دون دبابات عراقية، بل بوسائل أخرى.
سقط قصر بعبدا عندما قرّر حافظ الأسد المشاركة الى جانب القوات الاميركية والغربية والعربية الأخرى في حرب تحرير الكويت. انضم حافظ الأسد الى الفريق الرابح وقبض ثمن انضمامه الى الاميركيين مسبقا. كان لبنان الجائزة الكبرى. بقي لبنان خمسة عشر عاما تحت الوصاية السورية بغطاء أميركي.
هل يعجز لبنان في العام 2018 عن البناء على ما تحقّق في 2016 لدى انتخاب العماد عون رئيسا للجمهورية؟ هناك خوف من ذلك. في أساس هذا الخوف العجز مرّة أخرى عن قراءة المعادلات الإقليمية والدولية على غرار ما حصل في 1990.
منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، الذي لم يوجد من يطالب بالتمديد له كما حصل مع سلفيه الياس الهراوي واميل لحّود بسبب “اعلان بعبدا”، اصرّ “حزب الله” على انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. كان الخيار، بعد اغلاق أبواب مجلس النواب، بين ميشال عون رئيسا والفراغ. فضّل الرئيس سعد الحريري تفادي الفراغ، خصوصا بعدما اختار الدكتور سمير جعجع السير بدوره في خيار ميشال عون. ما العمل الآن بعدما تبيّن ان هناك رهانات على تغييرات ستحصل على الصعيد الإقليمي لمصلحة النظام السوري وايران؟
كانت مصلحة لبنان تقضي في العام 1990 بتفادي أي لعبة من نوع اللجوء الى صدّام حسين في المواجهة مع حافظ الأسد. كان الطريق الأقصر للمحافظة على مصلحة اللبنانيين وحماية حقوق المسيحيين القبول باتفاق الطائف والحؤول دون حروب داخلية أدت الى تهجير اكبر عدد ممكن من المسيحيين من لبنان.
لا يمكن القفز من حضن صدّام حسين الى حضن النظام السوري وايران، حتّى لو احتاج القيام بمثل هذه القفزة الى ثمانية عشر عاما. ليست مهمّة لبنان التحوّل الى “ساحة” تُستخدم إيرانيا للهرب من العقوبات الاميركية ولا حديقة خلفية لنظام سوري لا مستقبل له من ايّ نوع.
ان رفض تشكيل حكومة وفاقية تتمتع بحدّ ادنى من التوازن الوطني في 2018 يشبه الى حدّ كبير رفض اتفاق الطائف في أواخر العام 1989 وفي العام 1990، وصولا الى اليوم الذي سقط فيه قصر بعبدا ووزارة الدفاع التي دخلها جنود تابعون للنظام السوري للمرّة الاولى منذ استقلال لبنان في العام 1943.
يفترض في كلّ مسؤول لبناني التعاطي مع الواقع بعيدا عن الاوهام. الاهمّ من ذلك كلّه، يفترض ان يكون هناك من يريد ان يتعلّم شيئا من تجارب الماضي القريب. لا يحمي لبنان سوى العقل والتعقّل. يمرّ البلد في ازمة اقتصادية في غاية الخطورة. فوق ذلك، انّه بلد لا ماء ولا كهرباء فيه ولا حلّ لازمة النفايات، علما ان الماء والكهرباء وحلّ ازمة النفايات في متناول اليد.
من يريد مخرجا بالفعل يفكّر منذ الآن في كيفية تفادي الوصول الى وضع شبيه بما حصل في العام 2014 عندما قرّر “حزب الله” من يكون رئيسا للجمهورية. تحقق له ذلك في 2016. ما حصل في مستوى كارثة اتفاق القاهرة للعام 1969 الذي كرّس الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان… فكانت بداية الانهيار المستمر الى الآن، مع فاصل راحة قصير وفّره رفيق الحريري بين 1992 و 2005 وان بصعوبة كبيرة. هل من يمتلك حدّا ادنى من الشجاعة تسمح له بعملية نقد للذات تبدأ بقول الزعماء الموارنة، او اشباه الزعماء، لانفسهم امام المرآة: نعم، اريد ان أكون رئيسا للجمهورية ولكن ليس بايّ ثمن…