من الصعب قراءة الأحداث الملتهبة بعين باردة. تزداد القراءة صعوبة اذا كان الحدث يتناول أزمات معقدة في عقر الدار، أو في الجوار القريب أو البعيد، وما فيه من روابط قومية ووطنية، لا يستطيع المرء أن يتخفف من تأثيراتها النفسية والعاطفية، ويبقى موضوعياً ومحايداً. وأزمات المنطقة، بما فيها لبنان، تستعصي على القراءة المجردة فضلاً عن الموضوعية، بسبب طمسها بمؤثرات اقليمية ودولية متزايدة، ومتشابكة الى درجة يكاد أن يستحيل معها تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. واذا كانت جذور الأزمات واحدة في الأصل، وتعود تاريخياً الى زراعة الكيان الصهيوني في الأرض العربية في فلسطين بقوة التآمر الدولي ووحشية جرائم العصابات الصهيونية، فإن عبقرية النبوغ في الاجرام السياسي دولياً، جعلت ظاهر الأزمات اليوم يبدو وكأنه صراع مصيري – لا بين الأمة وأعدائها الخارجيين – وانما بين مكونات الشعب الواحد والأمة الواحدة!
اذا كانت جريمة الخارج هي في أنه وضع الطعم وأشعل الفتيل فإن جريمة الداخل هي ابتلاع الطعم، والنفخ على النيران لزيادته اشتعالاً! ومن الطبيعي أن يكون من يحترق بها هو الأقرب اليها من أهل الدار، وليس البعيد الذي أشعلها من بعيد! وبداية ضياع القيادات السياسية في الأوطان العربية، كانت في بداية اضاعتها للهدف الوطني والقومي… بحيث جعلت من خصوم ومنافسين داخليين هدفاً للصراع، بدلاً من حصر الهدف بالعدو الخارجي وهو حصراً الكيان الصهيوني وداعموه في الخارج، ولا سيما في الغرب، وبالأخص في أميركا. وبلغ العمى لدى المكونات السياسية في سوريا مثلاً – من نظام وعصابات مسلحة – الى تدمير البلاد وتشريد شعبها بالملايين، من أجل ألا يتنازل أحدهما للآخر على قاعدة ان العدو هو خارجي، وليس داخلياً!
تدمير الأوطان العربية يتم اليوم بالوسائل الساخنة والملتهبة. غير أن هناك وسيلة أكثر خبثاً لتدمير الوطن المتعدد على البارد، كما هي الحال في لبنان. وما تفعله القوى السياسية اللبنانية بعنادها وانقساماتها لا يختلف في المضمون عما تفعله القوى السياسية في المناطق العربية الملتهبة. وهذا يعني ان انتقال الشرارة الى الداخل اللبناني هي مسألة وقت فقط، اذا لم يستيقظ السياسيون من غفلتهم!