أطلقت الأحداث الأخيرة، منذ صورة عرسال، موجة تخوين طاولت لبنانيّين ولبنانيّات شاؤوا أن يغرّدوا خارج السرب. وسائط التواصل الاجتماعيّ أساساً، لكنْ أيضاً سياسيّون وصحف وتلفزيونات، كلّهم أدلوا بدلوهم في «دعم الجيش» والتشهير بمن لا يدعمونه وفقاً لمعاييرهم في الدعم. وطبعاً، كان لـ «بَوْس البوط» العسكريّ و «دعس الرقاب» حصّة معتبرة في هذا الدعم وذاك التشهير.
حسناً: الوطنيّة اللبنانيّة مرضوضة جدّاً ومريضة جدّاً. هذا ما يصعب أن نتوقّع سواه في ظروف البلد وفي أوضاع المنطقة. والوطنيّات المريضة هي التي تبرّر أفعالها، كائنة ما كانت، من دون أيّة مساءلة للذات وأيّ تحمّل للنقد. هي التي تبرّر قتل مدنيّين تحت التعذيب. هي التي تبرّر إحراق خيم للاّجئين. هي التي تبرّر «التنسيق» مع نظام كالنظام السوريّ «بهدف إعادة» من هجّرهم هذا النظام ذاته.
هذه الوطنيّة إنّما تسيء أوّلاً إلى الوطن إذ تقدّمه مسلخاً، كما تسيء إلى العقل والكرامة الإنسانيّين إذ يقاسان، والحال هذه، بتقبيل «البوط». وإذا صحّ ما يقال أحياناً من أنّ الحروب على الإرهاب ترتّب آلاماً إنسانيّة لا بدّ منها، يبقى أنّ تلك الحروب خفيّة وحمّالة أوجه فيما الآلام ظاهرة تفقأ العين. الحروب تبوّب البشر وتعتّمهم. الآلام توحّدهم في إنسان واحد مطلق وتضيئه. لهذا يصعب الوقوف مع الحروب بغضّ النظر عن الآلام، فيما يُلحّ الدفاع عن ضحايا الآلام بغضّ النظر عن الحروب. هذا هو الموقف الأخلاقيّ. لكنّه الموقف السياسيّ الصائب أيضاً.
فهنا تميّز الوطنيّة الدستوريّة نفسها عن الوطنيّة الحربيّة. وطنيّة القيم والمساءلة والنقد مقابل وطنيّة التسليم والتزلّم والقسوة على الآخرين وتمجيد الذات وتمرير بضع مصالح وضيعة. وطنيّة الحقوق والواجبات مقابل وطنيّة الزجل و «هلّي ع الريح».
ونعرف أنّ كثيرين تخرّجوا وما زالوا يتخرّجون من مدرسة الوطنيّة الثانية، وأنّ وجوهاً كالوزير السابق ميشال سماحة كانوا في عدادهم. لكنّنا نعرف أيضاً أيّ استعداد يبديه هؤلاء لإلحاق الوطن بنظام قاتل في الجوار، ولإنزال الموت بأبرياء حرصاً على مصالح ذاك النظام، وللقبول الفعليّ بجيش اسمه «حزب الله» يكون أقوى أضعافاً من الجيش الوطنيّ الذي يزعمون عبادته. وهذا فضلاً عن استعدادهم لتلطيخ صورة الوطن وصورة جيشه، بأعمال قتل وتعذيب مقرفة، من أجل إنجاح «التنسيق» مع هذا النظام إيّاه.
وما دام البعض يستعيد «عِبَر» الماضي، كي يضمن ألاّ ينحرف بنا المستقبل، يغدو مفيداً أن نقرأ الماضي قراءة مغايرة:
إنّ الذين يعترضون ويتمسّكون بالوطنيّة الدستوريّة لا يكرّرون الوقوف مع البندقيّة الفلسطينيّة ضدّ الدولة اللبنانيّة، بل يدينون ذلك. إلاّ أنّهم أيضاً لا يقبلون، بل يدينون، معاملة المدنيّ الفلسطينيّ على النحو الذي عومل به قبل أن يتسلّح، والذي ساهم بقوّة في دفعه إلى التسلّح.
وهم ليسوا مع دمج لبنان في كلٍّ، سوريّ أو عربيّ أو إسلاميّ، أكبر. إنّهم يعرفون تماماً، وأكثر من غيرهم، أهميّة الحرّيّة في لبنان وأهميّة لبنان بوصفه وطناً للحرّيّة. إلاّ أنّهم، مع ذلك، يستنكرون «حقّ» بعض اللبنانيّين بحمل السلاح والتحكّم بالبعض الآخر الذي لا يحظى بهذا «الحقّ».
وهؤلاء يكرهون الإرهاب أكثر من سواهم، لأنّ خطر «داعش» يتهدّد طريقتهم في الحياة وفي التفكير قبل أن يكون خطراً سياسيّاً. لكنّهم أيضاً يكرهون أسباب الإرهاب ويظنّون أنّه، مثل كلّ شيء آخر، له أسباب. أمّا أن تكون «إعادة إعمار» سوريّة الرشوة المدفوعة سلفاً للقبول بانتهاك السوريّين، فتذكّر بالحدث الكبير الذي هو اغتيال صاحب «إعادة إعمار» لبنان بعد انتهاك اللبنانيّين بالإعمار مرّة وبالاغتيال مرّات.
وهي، على العموم، معركة خاسرة تقودها الوطنيّة الدستوريّة ضدّ الوطنيّة الحربيّة للطوائف «الكريمة». وكيف يمكن ألاّ تكون خاسرة في مناخ الثورة المضادّة التي تنشر أعلامها العابرة للحدود، وكيف لا تكون كذلك في لبنان تحديداً، هو الذي لا يعدو كونه واحة صغيرة في محيط؟ لكنّ الفارق يبقى كبيراً بين أن ينهزم الأخلاقيّ ويبقى هو الأخلاقيّ، وأن يُعدّ الكاسب هو الأخلاقيّ لأنّه الكاسب.