IMLebanon

محوران متصادمان… وسريران إقليميان!

 

أن تسمع شخصية سياسية وهي تقرأ المشهد عن بعد، وتتحدث بتشاؤم عن طبخة تأليف الحكومة، شيء، ولكن أن تسمع كلاماً سوداوياً مباشراً وصريحاً حول هذا الامر، من العارفين بخفايا وتفاصيل كل ما جرى ويجري داخل المطبخ وحوله، فهذا شيء آخر.

« يجب الاعتراف بأنّ جرّة التأليف قد كُسرت لا بل تحطّمت، ولم يعد في الإمكان ترميمها أو إعادة لحمها، وعليه فإنّ الحكومة التي يُفترض أن تولد، لا وجود لها في حسبان أحد».

هذه الصورة، يرسمها أحد العارفين الأساسيين بخفايا طبخة التأليف، ويقرنها باعتراف صريح «دعونا لا نكذب على بعضنا البعض، هذه الصورة الفاشلة تبدّت منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها مفاوضات التأليف، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم، يشارك الجميع في حفلة تكاذب، وبالتالي الأمور ما زالت متوقفة هنا، وبمعنى أدقّ لا قرارَ حتى الآن بتأليف حكومة».

السؤالُ البديهي هنا: لماذا؟

تعترف تلك الشخصية بأنه حتى الآن لا توجد أيُّ بادرة اختراق في حائط التأليف، لمجموعة أسباب:

– أولاً، لأن لا أحد من الأطراف المتصادمة على حلبة الحصص والحقائب والأحجام يملك خياراً بديلاً عن انتظار أن يستحصل على «سمة الدخول» في مرحلة النضج السياسي غير المتوفّر حالياً، الذي يمكّنه من تقدير عواقب شلّ البلد سياسياً وحكومياً، وتقديم المصلحة اللبنانية على المصالح الخارجية.

– ثانياً، لأن لا أحد من هذه الأطراف المتصادمة يملك قراره، حتى لا نقول تخلّى عن شخصيته وحتى عن ورقة التوت. ولم يعد أمام هذه الأطراف إلّا أن تحاول التعويض عن هذا الإفلاس بتحويل نفسها قنابلَ صوتية، أعمت بصرَها وبصيرتها شهوةٌ قاتلة الى الغلبة والفوقية وبلع كل شيء، وسياسة لا تتقن من فنّ السياسة سوى القدح والذم ونشر الغسيل والتراشق بالنعوت الحربية، والأوصاف والمذمّات والإهانات من فوق السطوح وتحتها.

– ثالثاً، لأن لا أحد من هذه الأطراف يملك خياراً بديلاً عن انتظار أن يأتيه «القرار» من داخل الحدود أو خارجها، ليسوّقه طائعاً أو مُكرَها لإحداث اختراقٍ إيجابي في حائط التأليف.

– رابعاً، لأنّ الأطراف تتعمّد الهروب دائماً الى الأمام، بتغليف عجزها وفشلها بصراخ متبادل من هنا وهناك، فيما الحكومة مفقودة، أو بالاحرى محبوسة خلف قضبان عقليات متصلّبة ونرجسيّات مخيفة تقطع طريق الحكومة بمقامرة سياسية تراهن على كل شيء من أجل لا شيء.

حال التأليف، تقول تلك الشخصية، تلخّصه حكاية زوجين، لكل منهما حبيب أو عشيق، ولا يطيق أحدُهما الآخر، ومع ذلك تمّ تزويجُهما بالإكراه، فتساكنا عنوةً وتعايشا رغماً عنهما، وتشاركا غرفة نوم واحد، ولكن بسريرين تُباعد بينهما مسافاتٌ زمنية وضوئية، وكل منهما «مُتسطّح» على سريره يحلم بفتى أحلامه وينتظره أن يأتي اليه لإنقاذه على حصان أبيض.

ولأنّ زواجهما اشبه بـ«الزواج الماروني» الصعب الإفلات من طوقه، صار كل منهما يبحث عمّا يعزّز وضعه، عمّا يمكنه من جلب الآخر الى بيت طاعته، وكلّ منهما يعتقد أنه بالضغط أو التضييق أو الابتزاز سيحقّق مراده إما بدفع الشريك الى هجرته، وإما يكرِهُه على الانصياع لإرادته والتسليم بمشيئته والرضا بالأمر الواقع الذي يفرضه عليه.

هذان الزوجان يشبهان القوى السياسية في لبنان، مكتوب أن تتساكن وتتعايش مع بعضها البعض، ولا تستطيع أن تخرج من بعضها، وإن كانت في دواخلها كلها تتمنى ذلك وتريد الطلاق، وفي زمن التأليف توزّعت هذه القوى بين محورَين متصادمَين على حلبة الحكومة، كلاهما خائف من الآخر، ويعجّزه بشروط غير قابلة للتحقيق، لكنه يحاذر الذهاب الى خطوات غير مأمونة العواقب.

فأيُّ حكومة ستولد من رحم هذه القوى، أو بالأحرى من رحم محورَين كل منهما ينام على سرير إقليمي، وينتظر أن تتبلور معطيات ووقائع إقليمية ومتغيّرات تفرض واقعاً جديداً بحيث تميل الدفة في هذا الاتّجاه أو ذاك.

من هنا يبدو الطرفان غير مستعجلين على تأليف حكومة ريثما تنجلي الصورة الإقليمية؛ الطرف الأول مقتنع:

– بأنّ ثمّة متغيّرات ستنسحب حتماً على لبنان في وقت ليس بعيداً، وأولها سقوط إيران من الداخل أو الخارج. وهذا معناه أنّ مسار التأليف سيشهد تعديلاً جوهرياً في مقاربته.

– بأنّ الطرف الآخر لا يملك خياراً بديلاً للحريري في رئاسة الحكومة، ولا يستطيع أن يخرج منه، وأنّ رئيس الجمهورية لا يستطيع إلزام الرئيس المكلف بشيء. فضلاً عن أنّ الحريري يشكّل عنواناً للاستقرار السياسي والاقتصادي، وأيّ تفكير بهذا الأمر معناه أنّ هذا الاستقرار سيهتز، أو ربما ينهار.

– بوجوب منع تشكيل حكومة رئيس الجمهورية وفريقه السياسي وحلفائه، وتحديداً «حزب الله» ومعهم سنّة المعارضة، أقوياء فيها ويملكون قدرة التحكّم بمصير الحكومة وقرارها. حكومة من هذا النوع هي حكومة سورية إيرانية، وهذا معناه التسليم لسوريا وإيران والانقلاب على كل مرحلة ما بعد العام 2005.

وأما الطرف الثاني، فمقتنع:

– بأنّ عدم مبادرة الطرف الآخر لأيِّ مسعى جدّي نحو تأليف الحكومة، مجمّد بقرار خارجي.

– بوجوب منع الطرف الآخر من تحقيق هدفه الرامي الى نسف نتائج الانتخابات بحكومة غير متوازنة.

– بأنّ المنطقة على حافة تغيّرات جذرية، وخصوصاً في الميدان السوري، وستنتسحب إيجابياتها حتماً وسريعاً على لبنان، وتنقله من ضفة الى ضفة، وأولى خطوات الترجمة ستتبدّى على الخط الحكومي بالتوازي مع خط التطبيع بين البلدَين والحكومتين.

– بضرورة منع قيام حكومة، الحريري وسمير جعجع ووليد جنبلاط أقوياء فيها، بما يمنحهم قدرة التحكّم بها. وحكومة كهذه ممنوعة بأيِّ ثمن، كونها حكومة بأجندة سعودية، والأساس فيها العودة الى إدارة البلد تحت «المظلّة»، وطبعاً نسف النتائج التي أفرزتها الانتخابات النيابية، والتي أظهرت أنّ الأكثرية لم تعد تحت هذه المظلّة.

خلاصة كلام الشخصية العارفة بخفايا مطبخ التأليف، أنّ الحكومة عالقة بين محور يرفض حكومة سوريّة إيرانية، ومحور يرفض حكومة سعودية، وفي ظلّ هذين المحورَين تصدق مقولة أحد كبار السياسيين، بأنّ لبنان ممنوعٌ عليه أن يعيش، وممنوعٌ عليه أن يموت، مكتوب عليه فقط أن يبقى مريضاً ومعتلّاً، وبين هذين المحورَين، أو بالأحرى المتراسين المتصادمين، يبدو أنّ زمن العلّة سيطول كثيراً هذه المرة.