هل وصل اللبنانيون إلى نقطة اللاعودة؟ هل وصلوا إلى الطلاق الواقعي، بعدما أثبت الفريق الحاكم، طيلة هذه الأعوام وبشكلٍ لا يقبل الجدل، التناقض بين ثقافتين سياسيتين قد يستحيلُ جمعهما، أو إيجاد قاسمٍ مشتركٍ بينهما لإقامة دولة واحدة، دولة عدالة ومساواة بين جميع اللبنانيين؟
ما يعانيه اللبنانيون من تسلُّطِ فئة على مقدرات الدولة، على حدودها ومؤسساتها وقضائها وسلمها وحربها… كلُّها أمورٌ تنذر بالشؤم. وما يشاهده اللبنانيون من تناقضٍ حاد، في مواقف المسؤولين السياسيين وقادة الرأي، يزيد من وتيرة التناقض، ويدفع بالمواطنين إلى الشكِّ والتساؤل: هل أصبحنا بالفعل أمام استحالة قيام دولة واحدة، بثقافة مشتركة، تُعيدُ للبنان جوهر وجوده في هذا الشرق؟ وإن حاولنا التنكُّرَ للواقع، بتهدئة بعض الخطاب السياسي، إلاّ أنّ الممارسات على أرضِ الواقع، تصبُّ في خانة الطلاق والفراق. ماذا تقول الوقائع؟
في الانتخابات النيابية مثلاً، التي تنتج السلطة التشريعية، ثقافتان متناقضتان: ثقافة ديموقراطية تمارس الحرية، وتنتج تنوُّعاً بين مكوناتها، وثقافة ديكتاتورية تمارس القمع والتسلُّط، لتستأثر وحدها بتمثيل بيئتها. وهكذا يصبح المجلس النيابي نتاج ثقافتين متناقضتين، تصعب إدارته بشكلٍ ديموقراطي ليتحوَّل، كما نشهد اليوم، إلى أوليغارشية نيابية محكومة بفكرٍ أحادي، يعطِّلُ الحياة الدستورية؛ كما يتحكَّمُ حتى بالنخب المجتمعية في النقابات المهنية.
كيف يمكن إعادة بناء دولة واحدة، عندما تتجاذبها ثقافتان: واحدة تعمل لدولةٍ بحدود، وأخرى تعملُ لأمَّةٍ بلا حدود؟ كيف تبنى دولةٌ واحدة من فريقين: أحدهما يؤلِّه الموت في سبيل الغرباء، وآخر يعشق الحياة من أجلِ لبنان؟ وهل يمكن أن نبني دولةً واحدة، بينما ينفردُ أحدُ مكوناتها، بخوضِ حربٍ كونية بين ساحات الأرجنتين وتايلاند؟ ولمصلحة من! كيف نُنقِذُ الدولة من الإهتراء، عندما يُتركُ مواطنوها فريسة لعصابات تجار الطوابع والمخدرات وحُماتهم؟ كيف نعيد بناء الدولة عندما يصبح المجرم أقوى من القاضي، والحاكم أقوى من المحاكم؟ أو عندما تنقلب الأدوار فيخاف المواطن من الحاكم، بدل أن يخاف الحاكم من المواطن؟!
كيف ننقذ الدولة من الإفلاس، عندما يسطو مسؤولوها على ثروات المواطنين بعملية «بونزي»، ويلاحقون هؤلاء المواطنين، على ما اختزنوه في جيوبهم من «فلس» الأرملة، للأيام السود في الجوع والمرض؟
كيف نأمل في توحيد دولةٍ، عندما ترتفع الأصوات لدى إحدى مكوناتها، الأكثر اختراقاً من مخابرات العدو، والأكثر خصوبةً في العمالة لهذا العدو، لتتَّهِم الأنقياء والأحرار، الذين لم يُضبط في صفوفهم أي عميل أو خائن، تتهمهم بالعمالة والخيانة لتبرير فشلها؟
نعم علينا أن نُقرّ ونعترف، بأنه يستحيل علينا بناء دولة، واحدة بهكذا ثقافتين متناقضتين، إن لم يتخلّ صاحب الفكر التسلُّطي عن ثقافته، للبحث مع شركائه في الوطن لإيجاد قاسم مشترك، يؤمن الحرية والعدالة والمساواة لكل المواطنين. نحن لسنا البلد الوحيد في هذا العالم، الذي يختزن عدة ثقافات؛ لكن تلك الدول أوجدت حلولاً لهذ المسائل بالتراضي والتصالح، نذكر منها بلجيكا، تشيكوسلوفاكيا، سويسرا، يوغوسلافيا، الهند، رواندا… إذاً نحن أمام خيارين: إمّا أن نتوافق على قاسمٍ مشترك لبناء دولة العدالة والمساواة، أو الإستمرار في محاولة فرضِ ثقافة فريق، على دولة متعددة المكونات والثقافات السياسية، وهذا أمرٌ مستحيل التحقيق، قد يقود إلى ما أخطر مما نحن عليه؛ يكون فيه صاحب الفكر التسلُّطي الخاسر الأكبر.
(*) نائب سابق في «تكتُّلِ الجمهورية القوية»