خاب ظنّ الروس مرّتين. في الأولى عندما افترض نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف أن «فضح» تنازل الأميركيين في «اتفاق» جنيف الأخير عن البحث في «مصير» الرئيس السوري السابق بشار الاسد أو «المرحلة الانتقالية»، سيصيب إدارة باراك أوباما بالإحراج أو الوجل أو الحياء! والثانية عندما أكمل المندوب الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين المسلسل وقرأ أمام الصحافيين فقرة أخرى أراد الأميركيون أن تظلّ في العتم. وهذه تقول حرفياً «إن روسيا وأميركا تعملان معاً لإشاعة الاستقرار في سوريا مع ترتيبات خاصة بشأن منطقة حلب».
إذا كانت الفقرة الأولى الخاصة بقصّة «مصير» الأسد غير مفاجئة تبعاً للتدرّج التنازلي في مواقف واشنطن تحت سقف عدم الرغبة (راهناً!!) في إزاحة الرئيس السابق من مكانه، فإنّ الفقرة الثانية المتعلّقة بـ«الترتيبات الخاصّة بمنطقة حلب»، كانت كافية في رأي موسكو لفضح رياء واشنطن ونفاقها.. إلاّ أن هذه ردّت، أو تبدو، كأنّها تردّ على ذلك من خلال الإيحاء بإعادة النظر في كل «الاتفاق» دفعة واحدة! أو هكذا تدلّ التطوّرات الميدانية التي عادت إلى الاشتعال وانطلاقاً من حلب نفسها!
لكن، ما الذي يخيف الأميركيين من كشف الفقرة الخاصة بحلب والتي تبدو في ظاهرها عادية جداً!! ولماذا يفترض الروس أن كشفها فيه كيد للأميركيين! وازعاج لهم! وإحراج ما بعده ولا قبله إحراج؟! وما هي نوعية «الترتيبات الخاصّة» التي وردت في «الاتفاق» المذكور؟
وأكثر من ذلك، كيف ركبت «المصادفة» بين تطوّر مفاوضات جنيف وصولاً إلى «الاتفاق» في التاسع من الشهر الجاري، وبين استعادة قوّات المحور الإيراني الأسدي السيطرة على منطقة الراموسة والكليات العسكرية، والعودة بالتالي إلى إحكام الحصار على مناطق المعارضة؟! بل ما صحّة ما قيل عن ان القوّات المشتركة للمعارضة التي خاضت وربحت معركة كسر الحصار، استدعيت على عجل إلى مناطق شمالية أخرى وخصوصاً جرابلس؟!
بعض الأسئلة التفصيلية يوصل إلى بعض الاستنتاجات المزعجة! أو بالأحرى، يثير الكثير من الهواجس الكبيرة والخطيرة!
من ذلك، أن هناك خشية فعلية من «إسقاط» مناطق المعارضة في حلب، بالتدريج وتحت ستارات وأغطية كثيفة، منها للمفارقة، الحديث عن إدخال المساعدات الإنسانية إليها! ثم توجيه مَن بقي فيها من سكان باتجاه الملاذ المقصود بكثرة هذه الأيام، في أدلب ومنطقتها!؟ وذلك، يماثل ما جرى في داريا وما سيجري في المعضمية وحي الوعر في حمص. وما كان جرى سابقاً في الخط الممتد من القصير إلى الزبداني! أي، استمرار رسم اطار جغرافي صافٍ وخالٍ من الأكثرية السنّية على طول الخط الممتد من أقصى الساحل الشمالي السوري إلى العاصمة دمشق مروراً بالمناطق المتاخمة للحدود اللبنانية الشرقية، حيث «حزب الله» ولا أحد سواه!
إذا أُضيف إلى هذا الخط، ما يجري في العراق من عمليات تطهير مذهبي (وعرقي) من جنوب العراق إلى وسطه إلى شماله في الموصل (الموعودة بالتحرير!)، فإنّ الزمن لن يطول قبل إكمال تظهير صورة «الهلال» المذهبي الممتد من إيران إلى شواطئ المتوسط! وبالتالي ستصبح المنطقة منطقتين: واحدة إيرانية الهوى والنفوذ والسيطرة تضمّ خليطاً من كل الأقليات! والثانية على ما هي عليه وتمتد من الغرب إلى الحدود الجنوبية لفلسطين التاريخية، وتضم الأكثرية التاريخية العربية والإسلامية!
.. كأنّ واشنطن تشارك في إنضاج هذه الخريطة! مرّة مباشرة مثلما تفعل في العراق من خلال الانخراط في شبه غرفة عمليات مشتركة مع الإيرانيين في «الحرب ضدّ داعش». ومرّة بالتورية والخديعة والانكفاء والتنازل مثلما تفعل في سوريا! وبدأب لا تنقصه الوقاحة!
وذلك لمَن يشاء يخدم المشروع الاستراتيجي الإسرائيلي ويحصّنه أكثر فأكثر! مثلما يخدم «التطلعات» الأميركية إلى الردّ الاستراتيجي على الإسلام الأكثري «الذي يحمل بذور الإرهاب» في نصوصه ومدارسه الفقهية والعقيدية! مثلما يخدم منطق احتواء إيران وخدمة أجندتها في الوقت ذاته!
والواقع، لمَن يريد الاستطراد أكثر، هو أن الأميركيين يقدمون ما يكفي من دلالات على «مشاركتهم» الحيوية في تنفيذ هذا السيناريو المرعب، حتى خارج أرضه المباشرة.. أي انهم يُتعبون مراكز الثقل المضادّ وخصوصاً السعودية وتركيا بقضايا كثيرة. منها ما يتعلق بتفاصيل يمنية! ومنها ما يتّصل بقرار الكونغرس فتح الباب أمام أهل ضحايا 11 أيلول لطلب تعويضات! ومنها متابعة الضخّ الإعلامي والسياسي السلبي! ومنها محاولة الانقلاب في 15 تموز الماضي واستمرار الشحن السلبي ضدّ التجربة الاردوغانية في جملتها.. وغير هذا الكثير من التفاصيل التي تصل إلى «اتفاق» جنيف في 9 أيلول الماضي وما فيه من فقرة تتحدّث عن «ترتيبات خاصة بمنطقة حلب»!!
.. على سبيل التذكير فقط: أوّل مَن كشف خرائط «سايكس بيكو» كان البلاشفة الروس!!