زيارة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون لبنان أول من أمس وزيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند المقررة مطلع الشهر المقبل، هما استجابتان لوقع النزوح السوري الذي يخترق حدود أوروبا بعدما فاضت به الدول المجاورة. وقبل بروز قضية النزوح هذه، كان الاهتمام الغربي بلبنان يتركّز على «حزب الله» أكثر منه على اهتراء المؤسسات الدستورية وشغور الرئاسة الأولى، كأن الدولة اللبنانية مرتهنة لتطورات المنطقة، وخصوصاً سورية.
وإذا كان شائعاً أن استقرار الحد الأدنى في لبنان يرجع إلى رعاية كبار الإقليم والعالم، فالمجتمع اللبناني يشارك بفاعلية في حفظ هذا الاستقرار، على رغم انخراطه في حروب وأزمات سابقة منذ العام 1975. هذا المجتمع اكتسب خبرة في الحريات العامة منذ تكوين دولة لبنان في عشرينات القرن الماضي، فتم الاعتراف بالطوائف الدينية إلى جانب قانون واحد لشعب واحد في الشؤون المدنية، فمارس الأفراد عيشهم استناداً إلى حرية التملُّك والتعليم والعمل والسفر والتفكير، وإلى الانفتاح على مصادر المعرفة. كان المجتمع أكبر من الدولة وأقوى، فلم تخلف الطائفية سلبياتها إلّا في النخبة السياسية ورموزها، في حين شكّل المجتمع، بنسبة تعليمه العالية وتفاعله مع الغرب والداخل العربي، الصورة المعتمدة للبنان في نظرة الآخرين الواقعية وفي خيالهم.
خبرة الحرية كوّنت قاعدة استقرار ومنطلقاً للدفاع عن الوطن وتحريره من الوصايات والاجتياحات، خصوصاً الوصاية السورية والاجتياح الإسرائيلي. وهنا المعنى التاريخي لدفع إسرائيل إلى الانسحاب من لبنان، وهو في الآن نفسه معنى استراتيجي يؤخذ في الاعتبار إقليمياً ودولياً. وأبعد من إرادة التحرير القائمة على تراث الحرية، هناك الجانب الثقافي الذي يظهر في أسلوب حياة قائم على الانفتاح والإنتاج والفرح، ما جعل لبنان، خصوصاً عاصمته بيروت، نقطة جذب للنخب العربية، فمن الصعوبة أن تكتمل معرفتنا بالشاعرين السوريين نزار قباني وأدونيس وبالشاعر الفلسطيني محمود درويش من دون سيرتهم اللبنانية تأثُّراً وتأثيراً. هذا المثل في الشعر ينسحب على مجالات قيادية في أنواع المعرفة كما في الاقتصاد والسياسة.
وثمة حقيقة يخجل منها اللبنانيون على رغم حضورها في أساس الحريات الاجتماعية. وقد بدأ الخجل في صوغ الدستور الأول، المتضمّن المادة «6 مكرّر» المهيأة للحذف والتي تفيد العمل بالمحاصصة الطائفية موقتاً ريثما يتهيأ المجتمع نفسياً لإلغائها. والآن، بعد عقود من الدستور الأول ومن دستور الطائف، تتأكد إيجابيات الطائفية المعلنة أمام سلبيات الطائفية المستترة في الجوار السوري والعراقي التي هدمت بنى الدولة فيهما وحطمت المجتمع، وهي تُنتج هذه الأيام عنفاً غير مسبوق تعاني منه المنطقة والعالم.
لم يلتفت كامرون إلى الحراك الشبابي في لبنان ولن يلتفت إليه هولاند، لكن الحراك يمكنه التحوُّل إلى جماعة ضغط على الطبقة الحاكمة، وصولاً إلى تشكيل ما يشبه حكومة ظل تراقب أداء حكومة الرئيس تمام سلام وأي حكومة مقبلة. بهذا يحقّق الشباب دورهم في مجتمع استبدّت به الطبقة الحاكمة وكادت تخنقه. وفي مقابل الرقابة الشبابية، يمكن لأي مجموعة سياسية منفتحة أن تضغط لتنفيذ اتفاق الطائف، وصولاً إلى حصر الطائفية في مجلس الشيوخ، فيما يعتبر مجلس النواب المجال المدني للتمثيل السياسي.
ثمة ضغط مطلوب، أكثر من أي وقت مضى، لتنفيذ اتفاق الطائف الذي عرقلته الوصاية السورية وأيتامها الحاضرون في الحكم وخارجه. وبتنفيذ «الطائف» تصفية للطائفية من أدرانها وأشواكها، لتعكس نوعاً من الواقعية السياسية في لبنان الذي يجاور بلداناً أوصلتها طائفيتها المستترة إلى الانتحار، فقط لأنها مستترة وتفتقد علنية قائمة على اعترافات متبادلة.