أظهرت غالبية الشعب الإسرائيلي في السنوات الماضية أنها صارت في صف اليمين. وأكّدت غير مرة مراكز أبحاث أميركية أن يمينيتها لا تبدو مهددة لأسباب عدة، منها إجهاضها حل الدولتين بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية وبتهويد القدس الشرقية رغم مفاوضات حكومتها مع السلطة الفلسطينية برعاية وزير خارجية أميركا جون كيري. وبدا أن التفاوض كان ذريعة لتهدئة أميركا وحلفائها والأوروبيين الذين “طفح كيلهم” من الخطوات الأحادية الإسرائيلية. ومن الأسباب أيضاً انشغال أميركا والعالم بمحاربة الإرهاب الإسلامي السنّي المتطرِّف حتى التكفير والعنف، واعتبارهما أنه الخطر الأول الذي يهدد الشرق الأوسط كما الدول التي استضافت مسلمين بالملايين على مدى عقود، وخطرهم على أوطانهم الجديدة يتصاعد. هذا الانشغال يجعل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في آخر الاهتمامات الدولية. ومن الأسباب ثالثاً تحوُّل قضية فلسطين هامشية في نظر العالم العربي الإسلامي. ذلك أن خطراً آخر داهماً عليه نشأ مع ولادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتنفيذها مشروعاً طموحاً للسيطرة عليه. ومن الأسباب رابعاً نجاح نتنياهو، بواسطة اليهود الأميركيين واللوبي النافذ الذي يحرّكه، في معاركه مع رئيس أميركا باراك أوباما. فنتنياهو رفض مساعيه للسلام مع الفلسطينيين وأفشل مساعي وزير خارجيته جون كيري، وأحبط مؤيدي حلّ الدولتين في الإدارة الأميركية كما في أوساط باحثين ومسؤولين وموظفين سابقين كبار، وأبقى سيطرته على الكونغرس، سواء كانت غالبية أعضائه جمهورية أو ديموقراطية. طبعاً لم يدفع ذلك أوباما إلى الخضوع لنتنياهو. لكن “العين بصيرة واليد قصيرة” كما يقال، فضلاً عن أن استعار “الإرهاب الإسلامي” المتطرِّف وغياب وحدة موقف عربي من مكافحته فرض على أوباما تبديل أولوياته.
هل ستعيد الانتخابات العامة الإسرائيلية في شهر آذار المقبل شعب إسرائيل إلى الوسط المستعِدّ “مبدئياً” للمساومة والتفاوض؟
لا يبدو ذلك مضموناً. فمواقف أعداء نتنياهو من اليمين واليسار والوسط لا تشجّع على توقُّع فشل اليمين بزعامة نتنياهو. إذ بدلاً من أن يستغل هؤلاء لجوء محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، بعد يأسه، إلى مجلس الأمن لإصدار قرار يفرض على إسرائيل انسحاباً خلال ثلاث سنوات ويحدِّد القدس عاصمة لدولتي فلسطين وإسرائيل… بدلاً من ذلك راح هؤلاء ومنهم تسيبي ليفني وزيرة العدل المُقالة وآخرون يطالبون كيري بعدم طرح المشروع الفلسطيني – الاردني على التصويت في مجلس الأمن قبل انتخابات إسرائيل خوفاً من أن يؤثر في مجراها ونتائجها، ويتمسكون برفض خطوات منفردة وأحادية فلسطينية. حتى كيري طلب قبل أسبوع أو أكثر من 28 سفيراً يمثِّلون الاتحاد الأوروبي في أثناء استقبالهم عدم دعم المشروع نفسه في مجلس الأمن خشية تعزيزه موقف اليمين الإسرائيلي. وأكد لهم أن ذلك ما أبلغته إليه ليفني وآخرون. وراح آخرون من يمينيي إسرائيل يطالبون الحكومة بالرد بإجراءات أحادية على كل اجراء أحادي فلسطيني وحتى بتفكيك السلطة الفلسطينية.
المواقف المذكورة هذه، مع مبادرة نتنياهو إلى تخويف شعبه من تحوُّل أوروبا ضد بلاده بتذكيره إياه بـ”المحرقة النازية”، ومع ورود إشارات وإن قليلة جداً عن اكتفاء أميركا بالامتناع عن التصويت على مشروع الأردن – فلسطين من دون استعمال حق النقض، لا بدّ أن يُقلق اليمين ويوحِّده دفاعاً عن الدولة وعن “قرارها المستقل”.
على ماذا يدل ذلك؟
على خبث معارضي نتنياهو من الإسرائيليين. فما يهمّهم أولاً هو الفوز في الانتخابات، وثانياً هو عدم إعطاء شعب فلسطين الفرصة لتحصيل الحد الأدنى من حقوقه، علماً أنهم يعرفون أن إسرائيل هي التي مارست الخطوات الأحادية دائماً لا الفلسطينيين. ويدل أيضاً على عدم جدية أميركا. فهي تعرف أن عدم الضغط على إسرائيل قبل الانتخابات سيدفعها إلى توجيه ضربة قاضية لحل الدولتين، سواء فاز اليمين كما هو مرجح أو أعداؤه السياسيون لا الإيديولوجيون. في حين أن ممارسة الضغط، مع الجو الدولي المتفهِّم عدالة مطالب الفلسطينيين، ربما تدفع ناخبي إسرائيل إلى الاعتدال خوفاً من خسارة الحماية الأميركية، علماً أن ذلك نظري أكثر منه عملياً.