هناك حاقد يقبع في مغارة. “أحمق” سياسياً، وجاهل دينياً، ومشوش اجتماعياً، ويتحكّم بعقولٍ شابة، فطرية التفكير، تقيس الصواب والخطأ، والطريق إلى النار أو الجنة، بناء على تخريفات الحاقد وتوجيهات مشغليه، الموزعين على دول العالم.
مذبحة جبل محسن، بتوقيتها ومنفذيها وآلية التخطيط لها، هي التجسيد الحيّ للإجرام الأتي من مغاور التكفير والتطرف. الشابان المنفذان هما الحلقة الأضعف، مثلهما مثل أهل الجبل. التهميش والإقصاء والعوز وانعدام الفرص والعنف كسبيل وحيد لإبداء الرأي وأخذ الدور، ينتج فيما ينتجون شباناً مطواعين لأيّ عقل شرير، يتسلّل إلى عقولهم الفتية، غير المؤهلة للتفريق بين الأسود والبيض، فيسهل عليهم قتل أهلهم ورفاق طفولتهم وإحراق ملاعب صباهم.
التطرف الديني، يا ليته “أفيوناً”، صار سالباً مطلقاً للعقل والجسد. الانتحاري المفرط بجسده إلى حد التمزيق، ينطلق من فكرة الجسد – السلاح الفتاك الذي يخدم “قضيته”.
أي قضية يخدم تفجير مقهى يغص بالرواد ليل السبت في جبل محسن؟ الانتقام لتفجير المسجدين في طرابلس! ربما يستخدم كذريعة. والتضييق على إرهابيي “النصرة” و”داعش” في القلمون قد يكون سبباً أيضاً. وربما هو محاولة للضغط لإطلاق سراح إرهابيين من سجن رومية، بعدما بدأت ورقة العسكريين المخطوفين تستنفد أرجحيتها التفاوضية. ويبقى السبب الأهم إذكاء نار الفتنة السنية – الشيعية.
من هنا، يبدو توقيت التفجير غير مطابق للوضع السياسي والأمني. فسياسياً يدور حوار جدي بين تيار “المستقبل” و”حزب الله”، عنوانه العريض تنفيس الاحتقان المذهبي. وهو حوار لن يسمح أي من الطرفين بتعرضه لانتكاسة، خصوصاً، بعد كلام السيد حسن نصرالله الأخير عن الحوار وعن المخاطر التي يتسبب بها التطرف الديني. وكان سبقه كلام مماثل بالمعنى والتوجه للرئيس سعد الحريري.
إذاً، الحوار لن يسقطه انتحاري، ولا انتحاريان. هناك قرار محلي وإقليمي ياستمراره، ما لم يكن بإنجاحه بشكل كامل.
وصحيح أن التفجيرين تجاوزا تشخيص الحال بأنه احتقان مذهبي، لكن تداعياتهما بقيت محصورة. وعلى الصعيد الأمني، جاءت مضاعفاتهما، عملية سريعة ومباشرة في سجن رومية تكلّلت بالنجاح بعدما تعثّرت خلال السنوات العشر الماضية عشرات المرات. وبالتأكيد، لن يخفّف التفجير من الضغط على مجموعات التكفيريين، وسيجعل الأجهزة الأمنية والجيش أكثر حرصاً على سمعة الدولة ودورها في حماية أبنائها في التفاوض بشأن العسكريين المخطوفين، بعدما استبيحت دماء المدنيين.
التفجيران، بكل بساطة، صرخة جبان يريد الإعلان عن استمرار وجوده وان كان في مغارة، مع علمه المسبق أنّه لن يقدّم أو يؤخّر في العمليّة السياسية أو الأمنية الحالية. التفجيران، ببساطة، خارج أي سياق، سوى الإيذاء من أجل الإيذاء. وجاءا في توقيت يجتمع فيه النظام العالمي، ودعاة الديموقراطية والحقوق والحريات وغيرهم، للتضامن ضد الإرهاب التكفيري من أي مكان أتى.
ليت هذا التضامن يبقى بالزخم ذاته ضدّ الإرهاب الذي طالنا ويطالنا منذ أكثر من ستة عقود، ونتمنى أن نجد بيننا من يتضامن بلغة عربية، ليس بالضرورة أن تكون فصحى مع ضحايانا الذين هم بيننا، وليسوا في قارة أخرى، ولم تبرد دماؤهم على الأرض بعد، على الرغم من الصقيع، علما أن “الأسى يبعث الأسى”.