تستدعي الأجهزة الأمنية اللبنانية إلى التحقيق ناشطين ومدونين بسبب كتابات لم ترُق للسياسيين واعتبروها مُهينة في حقهم. الاجهزة ذاتها تتغاضى عن تهديدات علنية وصريحة بالقتل والاعتداء الجسدي تصدر مطبوعة ومرئية ومسموعة عن صحافيين وكتّاب بحق زملاء لهم يناصبونهم العداء.
لا يُقابل الاحتجاج على إفراط السلطة في الغلظة حيال الأُوَل وغض الطرف عن الآخرين بردود من أي نوع. ذلك أن ازدواجية المعايير الظاهرة هذه سرعان ما تختفي عند النظر تحت سطح المجريات اليومية. تقوم أجهزة الدولة، عند استدعائها الناشطين الى التحقيق بسبب بضعة أسطر على موقع الفايسبوك، على سبيل المثال، بدورها كأداة في يد السلطة السياسية الشرعية تحركها هذه وفق تأويلاتها للقانون. وتترك الأجهزة ذاتها، الساحة مباحة أمام التهديدات بالقتل القابلة للانتقال من حيز القول الى حيز الفعل بأسرع من رفة جانح فراشة، بناء على تأويلات للقانون ايضاً.
لا تناقض هنا، فالقانون بتفسيراته السياسية، يبيح وجود مقاومة مسلحة تفوق قوتها قوة الجيش الشرعي لضرورات تم شرحها مراراً وتكراراً منذ مطالع تسعينات القرن الماضي. وترعى السلطة التنفيذية هذه التفسيرات وتسهر على حسن تطبيقها (وليس تطبيق القانون بما هو مواد مجردة) التي تشمل المقاومة الإعلامية والثقافية التي لا تتوقف عن توعد الخونة والعملاء (وهم كثرة بين اللبنانيين على ما يبدو) بقطف رؤوسهم وجز رقابهم وملاحقة البنادق إياهم… إلخ.
وإذا كان الرأي القديم يقول إن المقاومة تنتمي الى «حال استثناء» تضطر فيه الشعوب والجماعات –السياسية والطائفية والعرقية– الى حمل السلاح دفاعاً عن نفسها في وجه احتلال اجنبي بعد انهيار مؤسسات الدولة، على غرار ما جرى في اوروبا بعد الاحتلال النازي، ما يعني ان هذه المقاومة تفقد مبرراتها عند عودة الدولة بحسب المثال المذكور، فالحال عندنا أكثر تعقيداً، فالدولة بذاتها هي موضوع تنازع وصراع أهليين وطائفيين وسياسيين، وليست موضع إجماع وطني، وعليه يكون الموقف منها شديد النسبية وقابل للتغير بالتزامن طرداً مع تغيرات الأحوال والأهواء السياسية اليومية.
يتيح هذا الواقع تعايش منظومتين للعدالة ينبع كل منها من مكان. عدالة الدولة ومؤسساتها وعدالة المقاومة وقواها. ويدفع التعايش هذا إلى تداخل العدالتين تماماً كما تتداخل المقاومة بالدولة (والثانية ممنوع عليها أن تتداخل بالأولى). لذلك يجوز أن يتحرك جهاز أمني رسمي بناء على مقال صادر في صحيفة «مقاومة». ليس مهماً في هذا المقام، أكان من وقعت الشكوى عليه مذنباً في التهم الموجهة ضده أو بريئاً. المهم أنه خضع لمنطق المقاومة وقانونها وعدالتها.
ويخطئ من يظن أن هذه اللعبة المزدوجة قد تنتهي في حال تعززت سلطة الدولة وعندما يصبح الجيش قوياً، حيث إن البنية العميقة لأجهزة السلطة قد تشربت هذه الازدواجية وباتت تتصرف على أساس اعتبار التعايش بين المقاومة والدولة هو الأمر الطبيعي. بل يمكن الجزم بأن أسس هذه الازدواجية موجودة دائماً في النظام اللبناني قبل ظاهرة المقاومة، عندما كانت الأجهزة الرسمية «تراعي خواطر» الوجهاء وزعماء الأحياء والطوائف وتترك لهم الحق في تطبيق القانون على ما يوافقهم.
ما يحصل اليوم هو، ببساطة، احتكارُ جهة واحدة ترفع راية المقاومة الحالةَ الزبائنية القديمة، ونجاحُ الجهة هذه في الدفاع عن نفسها وعن عدالتها وفي تطويع اجهزة الدولة في خدمتها ضمن منظومتين متوازيتين، كلتاهما «مقاوم».