منذ الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر ، تاريخ «غزوة واشنطن ونيويورك» لا تزال الأسئلة المطروحة نفسها. ما الذي يمكن أن يحمل شبّانا على الإنتحار وقتل اكبر عدد من الأبرياء في الوقت ذاته؟ أين مكمن العلّة؟ هل من سبيل لمعالجة ظاهرة الإرهاب ومعها ظاهرة التطرّف الديني الذي يلبس لبوس الإسلام؟
كيف يمكن لشبّان مسلمين الإقدام على ما أقدموا عليه في باريس أخيرا؟ هل يعقل أن يكون هناك من هو على استعداد لقتل صحافيين ورسّامين في مجلة، لمجرّد أن ما ورد فيها لم يعجبه؟ حسنا، هناك في «شارلي إيبدو» من تجرّأ على نشر ما يسيء إلى الأديان. لم يقتصر الأمر على الدين الإسلامي. فالمجلة سخرت من كلّ الأديان. ولكن هل يعقل أن يكون هناك من يقتل من أجل ذلك؟
لنضع جانبا قضية «شارلي إيبدو» نظرا إلى أن العمل الإرهابي لم يستهدف مسلمين بل مجموعة من «الكفرة». ولكن، ما قصة المدرسة الباكستانية التي وجد من يقتل تلاميذها قبل اسابيع قليلة؟ ما قصة كلية الشرطة في صنعاء حيث قُتل العشرات قبل بضعة أيّام؟ ما قصة أحد مستشفيات العاصمة اليمنية؟ ما هي الأسباب التي دعت انتحاريين إلى مهاجمة مستشفى في صنعاء قبل بضع سنوات وقتل العشرات؟ ألم يكن الضحايا في باكستان واليمن من المسلمين؟
هناك «داعش» السنّية وهناك «دواعش» شيعية. فقبل ان تولد «القاعدة» ومتفرعاتها، كان هناك في العراق وايران ولبنان من يعمل من أجل تحقيق مآرب سياسية عن طريق الإنتحاريين أو عمليات الخطف والترهيب التي استهدفت على سبيل المثال وليس الحصر القضاء على كل معارض للنظام «الثوري» في ايران، داخل البلد وخارجه، وعلى تمدّد «حزب الله» في بيروت ومناطق لبنانية معيّنة. من طرد الأرمن من بيروت الغربية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي ليحلّ آخرون مكانهم؟ اليس ذلك ارهابا، مثله مثل خطف اجانب كانوا مقيمين في العاصمة اللبنانية؟
مثل هذه الأسئلة، التي يوجد الآلاف منها، ما زالت تحتاج إلى اجوبة واضحة كلّ الوضوح. هناك ثقافة نشأت استنادا إلى نصوص معيّنة لا علاقة لها بالإسلام والمسلمين لا بدّ من محاربتها. هذه الثقافة مرتبطة في جانب منها بالمدرسة والمناهج التربوية. ماذا يتعلّم الأولاد في المدارس؟ هل هناك من يعمل على نشر ثقافة ذات طابع متطور تحترم، أوّل ما تحترم، الإعتراف بالآخر وانسانيته ورفض تكفيره استنادا إلى نصوص دينية واضحة. هناك نصوص تنادي بالتسامح وتشدّد عليه بدل اللجوء إلى نصوص ذات طابع مختلف تدعو إلى القتل صراحة؟
هذا لا يعني أن البرامج التربوية ستحلّ كلّ المشكلة. الدليل على ذلك أن قسما من المنتمين إلى الجيل الثاني والثالث من الباكستانيين المهاجرين إلى بريطانيا أقلّ انفتاحا على تقاليد المجتمع البريطاني وقيمه من افراد الجيل الأوّل. هناك رغبة في الإنغلاق لدى كثيرين من ابناء الجيلين الثاني والثالث الذين درسوا في بريطانيا. هؤلاء نفّذوا صيف العام عمليات ارهابية في محطات للقطارات وباصات نقل في لندن. ليس معروفا إلى الآن ما الذي دفع إلى ذلك.
في الواقع، هناك عالمان لا يمكن أن يكون هناك أيّ تعايش بينهما. هناك عالم عرف كيف يضع حدّا لأي خلط بين الدين والدولة وعالم آخر يصرّ على أن يكون في عالم خاص به يرفض على سبيل المثال، وليس الحصر، المساواة بين الرجل والمرأة. هناك من يعيش في اوروبا واميركا ويرفض ذلك، على الرغم من أنّه هارب من الظلم والفقر في بلده إلى هاتين القارتين.
من الصعب تحديد مكمن العلّة. لنأخذ بلدا مثل باكستان. تأسّس البلد من منطلق ديني. كان على رأسه في البداية رجل معتدل يعرف العالم المتحضر وعلى تماس معه. كان اسمه محمد علي جناح. حمت باكستان المسلمين في شبه القارة الهندية لأن محمد علي جناح كان رجلا يمتلك بعد نظر. مع الوقت تدهور وضع المجتمع الباكستاني في ظلّ تدهور التعليم فيه. نشأت في باكستان أجيال من اشباه الأميين لا يعرفون شيئا عن الدين. تعلّم هؤلاء في ما سمّي «المدارس» الدينية التي مهّدت عمليا لقيام «طالبان». بات هناك «طالبان» افغانستان، كما هناك «طالبان» باكستان نفسها. صارت الهند، على العكس من باكستان، المكان الذي يشعر فيه المسلمون بالأمان. هل ذلك عائد إلى النظام التعليمي فيها، أم إلى نظامها الديموقراطي الذي يسمح باجراء انتخابات حرّة وتداول السلطة بين الأحزاب؟
كلّما تعمّق المرء في سعيه لمحاولة فهم ظاهرة الإرهاب، زادت الأسئلة. الثابت الوحيد في عالمنا العربي هو الحاجة إلى مقاربة شاملة للموضوع تقوم على اتخاذ مواقف جريئة. لا شكّ أن على مصر لعب دور طليعي في هذا المجال. لا شكّ أن الرئيس عبد الفتّاح السيسي اتخذ مواقف في غاية الجرأة في الأشهر القليلة الماضية. إنّه أوّل رئيس مصري يزور كاتدرائية الأقباط في مناسبة عيد الميلاد، كما أنّه أول رئيس مصري يدعو صراحة إلى تحديث الخطاب الديني، بل إلى «ثورة» في هذا المجال. الأكيد أن ممارسات الإخوان المسلمين، الذين سعوا إلى نشر التخلّف في مصر والذين لم يكن لديهم ما يتباهون به أو يقدّمونه، سوى تجربة «الإمارة الإسلامية» على الطريق الطالبانية في غزّة، ساعدته في استيعاب ما هو على المحكّ بالنسبة إلى مستقبل مصر.
هل تلعب مصر دورها الطليعي في مجال تحديث الخطاب الديني؟ الأمل كبير في ذلك، خصوصا أن المشير السيسي يحظى بدعم قويّ من دول تدرك مدى خطورة الإرهاب والدور السلبي للإخوان المسلمين في مجال نشره وتعميمه. على رأس هذه الدول المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتّحدة والمملكة الأردنية الهاشمية. ليس سرّا أن الوقوف مع مصر، حيث الأزهر، يعني أن على مصر أن تساعد نفسها ايضا بعيدا عن أي نوع من العقد. في استطاعة مصر أن تستفيد من التجربة المغربية في نشر ثقافة تقوم على الإعتدال في كلّ المجالات بدل الوقوع في افخاخ جزائرية هي في غنى عنها. وهذا ما حصل اخيرا للأسف الشديد.
لا بدّ من مكان يمكن الإنطلاق منه في الحرب على الإرهاب الذي يغذّيه النظام السوري عن طريق الإستمرار في قتل شعبه من منطلق مذهبي تشجّع عليه ايران. هذا المكان يمكن أن يكون مصر في حال نجاحها في تجديد الخطاب الديني وفي حال تخلّت عن عقد كثيرة، من بينها عقدة المغرب، تماما مثلما تخلّت قبل فترة قصيرة عن عقدة الأردن!