لم تبدأ حرب السنتيْن في ذاكرتي مع حادثة بوسطة عين الرّمانة، بدأت قبل ذلك بكثير، أذكرُ جيداً ذلك اليوم الذي حشدتنا فيه إدارة مدرسة «عائشة أمّ المؤمنين» لنستمع إلى كلمة مديرتنا ـ السيّدة خديجة بدر (رحمها الله) ـ كنتُ في الصفّ الابتدائي الثاني عام 1972، كانت المرّة الأولى التي أحتكّ بها بخطاب سياسي وبقضية سياسيّة، في خطاب المديرة تردّدت كلمتان أكثر من مرّة «الرئيس صائب سلام»، و»فلسطين»، لم أفهم مما قالته إلا ضرورة أن نقرأ ذلك الكتيّب الذي وزّع علينا بغلافه المائل إلى زرقة وعليه 3 كلمات تحت بعضها «فلسطين.. تاريخها.. قضيّتها».
في الحيّ الذي ولدتُ فيه في منطقة الطريق الجديدة ـ عند ساحة أبو شاكر ـ كان هناك الكثير من الجيران الفلسطينيين، ووجدتُ في والدتي (رحمها الله) ـ من دون أن أمتلك أدوات التعبير ـ المقاومة اللبنانيّة الأولى في حياتي، كانت تُردّد على مسمعنا الكثير من الكلمات التي تداولها جيران فلسطينيّون سأختصرها بجملة واحدة ضربوها كمثل «عضّة من يهودي ولا بوسة من بيروتي»، ولم أكن أعرف يومها أيضاً من هو اليهودي!!
بدأت تعليمات والدتي لي ولأخي بصفة أشدّ تصبح شديدة اللهجة، التحذير واضح «إياكم أن يغريكم أحدٌ بالدخول إلى هذا المنزل»، فبتنا نحثّ الخطى ونحن ننزل سُلّم المبنى خوفاً من هذا الباب المغلق الذي سكنه أغراب قيل إنهم طلاب فلسطينيون، ومنذ سكن هؤلاء قبض صاحب المبنى إيجار المنزل لمرة واحدة فقط، وفي الشهر التالي عندما طرقَ الباب ليقبض الإيجار شُهِرَ في وجهه مسدس وتعرّفنا لأوّل مرّة على جملة: «وَلَه بَطُخّك».. وظلّ البيت يتوارثه المسلّحون إلى أن خرج آخر واحد منهم مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي ـ كان قيادي في حركة فتح «العاصفة»ـ لطالما علّقتْ والدتي على هذا الأمر باستياء من اللبنانيين الذين أجّروا بيوتهم للمسلّحين طمعاً في خمس ليرات زيادة عن أي مستأجر لبناني!!
حمل العام التالي 1973 لحظات خوف شديد، فجأة انقطعنا عن المدرسة، وبتنا شبه سجناء في بيتنا نسمع للمرة الأولى كلمات مثل رصاص، غارة، صاروخ، وفهمنا يومها أنّ حرباً دائرة بين الجيش اللبناني و»الفدائيّة» ـ وهذا الاسم كان يُطلق على أي عنصر من ميليشيات التنظيمات الفلسطينية ـ المأساة الوحيدة التي حفرت في ذاكرتي من تلك الحرب «التمهيديّة» كان الصراخ الذي علا إثر عصف صاروخ ألقته طائرة للجيش اللبناني لم ينفجر في الملعب البلدي تسبّب بقطع ذراع «أمل» الصبيّة التي تستعدّ لعُرسها، حملوها وهرعوا بها مع ذراعها المقطوع إلى مستشفى المقاصد، وظلّ كُمّ ثوبها المتأرجح فارغاً من الكتف، واحداً من كوابيس عقلي وهواجسي من الآتي المجهول…
بعد هذا التاريخ، فقدت حياتنا الاستقرار، كانت النعوش تعبر الشارع ويعلو الرصاص، ومن على الشّرفة الضيّقة كنتُ أسمع السؤال الملهوف لجارتنا الفلسطينيّة: «فلسطيني ولّا لبناني»؟ وتبرد لهفتُها عندما يأتيها الجواب: «لبناني»!! صار الليلُ موحشاً أصوات رصاص يُطلق على سيّارة لم تتوقّف على حاجز فلسطيني قتلتْ عائلة، وبالنّهار كانت حواجز من نوع آخر قد اقتحمت حياتنا، دخل أخي باكياً يشكو فقد حبسه وقطع عليه طريق العودة إلى المنزل ابن جيران فلسطيني من آل الحلواني، استقوى عليه وقال له: «هاي مش طريقك»، خرجت أمّي ـ «المقاومة اللبنانيّة الأولى» في حياتي ـ غاضبة قصدت بيت ذاك الفتى الفلسطيني وفجّرت في وجه والدته جملة «فهّمي إبنك هيدا مش بلدو ومش طريقو»، وتحوّلت هذه الجملة لاحقاً فعل إيمان بلبنان «وطننا» لا «الوطن البديل» للفلسطينيين، منذ هذا العام 1973 اندلعت في ذاكرتي «المواجهة» الآتية من قبل اندلاع حرب السنتيْن ـ وكنتُ في الثامنة ـ حفرتْ هذه التساؤلات في ذاكرتي وعقلي كلمة واحدة ووعيتُ المجهول المخيف الآتي المتخفّي بالسؤال «لبناني ولّا فلسطيني»؟!
تبقى ليلة واحدة من أيّام حرب السنتيْن فيها حزن وقلق وخوف من البحر الذي سيحملنا إلى الإسكندريّة لنلحق بخالي وعائلته، فوالدتي مصريّة الأصل لبنانيّة الولادة ولبنانية الجنسيّة بالزواج، حُزِمت الحقائب ولم يبقَ إلا انبلاج فجر ليلة لم ننم فيها، في ذاك الفجر حسمتْ أمّي العقود الآتية من عمري، بصوت حازم بدا واضحاً في نبرته أنّها تقرّر مصير حياتنا لتقول: «لن نسافر» ورضخ والدتي لقرارها، وقالت وكأنّها تُحدّث نفسها: ولدتُ هنا وتربيتُ هنا، وأبي وأمّي دفنا هنا، لا بلد لي إلا لبنان، لن نسافر… هذه الجملة حفرت في عمق سنواتي العشر يومها وشكّلتْ لحظة اختيار لهذا الوطن…
يوم الأحد 13 نيسان 1975 ومع سماع والديّ نبأ حادثة بوسطة عين الرمّانة من إذاعة لبنان، بدا عليهما اضطراب شديد، فهمت من قلقهما أنّ شيئاً رهيباً ما سيقع وأنّ لبنان دخل نفقاً أسود، واندلعت الحرب التي تلوح ظلالها مجدداً هذه الأيام، ولكن من دون رهبة الإحساس بحفيف أجنحة ملائكة الموت التي اكتظ بها فضاء لبنان كلّه…