قبل عامين بالتمام والكمال اتّهمت المملكة العربية السعودية موسكو بتدبير انقلاب شامل في سوريا بعدما دخلت بكامل عتادها العسكري في المواجهة المفتوحة في سوريا لإنقاذ النظام ومنع سقوط عاصمته والساحل بأيدي المنظمات المعارضة. وللمفارقة ها هو العاهل السعودي الملك سلمان يستعدّ في هذه الذكرى لزيارة روسيا بعدما تجاوزت العلاقات بين البلدَين مرحلة الفتور بينهما. فما الذي تغيّر؟ وما هو المتوقّع؟
لا يمكن أيُّ مؤرّخ لتاريخ الحرب في سوريا أن يتجاهل ما أحدثته العملية العسكرية الروسية في 30 أيلول 2015 المتغيّرات التي أحدثتها على كل المستويات الداخلية السورية، وكذلك الإقليمية والدولية وتحوّلت محطةً اساسية فاصلة بين مرحلتين.
وصولاً الى اعتبار أنّ هذه العملية غيّرت مجرى تاريخ سوريا المعاصر والنظام على حدّ سواء فاستعاد أنفاسُه بلمح البصر وانتقل مجدّداً من مرحلة الدفاع الى الهجوم وحقق ما لم يكن في الحسبان في عامين من الحرب على رغم حجم المآسي التي عاشها الشعب السوري.
للمؤرّخ أن يستعيد بعض الوقائع التي شهدتها الأزمة السورية بدءاً من 30 أيلول وفجر الأول من تشرين الأول 2015 عندما شنّت الطائرات الروسية التي انطلقت من قاعدة حميميم في اللاذقية أكثر من عشرين غارة في يوم واحد على اكبر القواعد التي أسّستها المعارضة السورية ولا سيما منها «الجيش السوري الحر» والتشكيلات التي رعتها الولايات المتحدة الأميركية ومجموعة دول الحلف الدولي الذي نشأ قبل عام واحد من مؤتمر جدة في 11 أيلول 2014، ولا سيما منها السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة التي كانت قد أشركت طائراتها في العمليات العسكرية الى جانب قوات المعارضة.
قبل الطلعات الجوّية الروسية بساعات كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد نال موافقة مجلس الاتّحاد الروسي على تفويض مطلق بـ «استخدام القوات المسلحة الروسية خارج البلاد».
بعدما تسلّم كتاباً رسمياً من الرئيس السوري بشار الأسد يطلب اليه التدخّل عملاً بإتفاقية الدفاع المشترَك بين البلدين لـ «يسبغ الشرعية» على هذا التدخّل ويبرّر قيامَه بالعملية العسكرية، على عكس ما فعله الحلف الدولي الذي بادر الى مشاركته في الحرب من دون موافقة الأمم المتحدة أو أيّ من المنظمات الدولية ما يسمح بتبرير الأولى وإدانة الثانية.
وعلى وقع الغضب الذي عبّرت عنه المعارضة السورية في بيان رئيس «الائتلاف الوطني السوري المعارض» خالد خوجة وكتل أخرى منها واتهامها الروس بقتل مدنيين في مناطق ليست تابعة لتنظيم «داعش»، شكّك قادةٌ غربيّون في هدف الغارات والأسباب التي دفعت اليها وطالبوا موسكو بتوضيح مسبَق للأهداف التي تنوي ضربها في سوريا، فيما عبّرت الممكلة العربية السعودية عن اعتقادها بأنّ ما جرى شكّل انقلاباً خارج كل القواعد الإقليمية والدولية.
وأكد رئيس لجنة القوات المسلّحة في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور جون ماكين يومها أنّ الغارات الروسية استهدفت «وحدات من «الجيش السوري الحر» درّبتها وكالة المخابرات المركزية».
وبالتأكيد لم يكن لكل هذه المواقف أيّ صدى رادع في موسكو التي استأنفت التحضيرات لحربها في سوريا وبدأت تنظيم الأجواء فوق سوريا والمنطقة، ونشرت مزيداً من اسلحتها البرية والجوية واستخدمت في القصف صواريخها العابرة للقارات من بحر قزوين أولاً، ومن المتوسط لاحقاً. وقال بوتين إنّ ردات الفعل هذه والإدعاء بسقوط مدنيين مجرّد «هجوم إعلامي».
وبرّر العملية العسكرية بدعم «الجيش السوري فقط في كفاحه الشرعي ضد التنظيمات الإرهابية تحديداً»، حاصراً الخطوة بـ «الدعم الجوّي من دون مشاركة في العمليات البرية». وأضاف أنّ الهدف منها هو «القضاء على آلاف المنضمّين للتنظيمات الإرهابية من مواطني الدول الأوروبية وروسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق». مشيراً الى أنه وفي حال «انتصر هؤلاء فسيعودون إلى بلادهم وإلى روسيا أيضاً».
ومن دون الخوض في كثير من التفاصيل وموجبات التدخّل الروسي فقد قلبت العملية الوضع في سوريا رأساً على عقب، وتبدّلت كل أشكال المحادثات في عامين توصّلاً الى إقامة «المناطق الآمنة» والبحث عن حلول سياسية وديبلوماسية ودستورية في آن.
فإلى جانب الرعاية الروسية لإقامة «المناطق الآمنة» والمصالحات الداخلية في قلب سوريا وفي لقاءات «أستانة» التي قضت على مسلسل مؤتمرات «جنيف»، يواظب الروس على إعداد الدستور السوري الجديد لمرحلة ما بعد الحرب كما يعتقدون بعدما استعاد النظام أنفاسه وتفرّغ لمهمات عسكرية حاسمة ومعه حلفاء من لبنان وإيران والعراق ومختلف دول المحور الروسي ـ السوري ـ الإيراني الذي يخوض المواجهة مع الحلف الدولي.
وقد توقف المراقبون أمام التبدّلات العسكرية على الأرض واستعادة النظام 80 % من المناطق السكانية والمدن الرئيسة التي احتلّتها المعارضة وهو ما يُعرف بـ «سوريا المفيدة» بالإستناد الى ما وفّرته روسيا من دعم لقوات برية من الجيش السوري والمنظمات الرديفة التي شكلت من على يمينه ويساره و«حزب الله» ووحدات من جهات مختلفة في وقت تفكّكت فيه القوى الداخلية التي دعمتها دول عربية والحلف الدولي من «الجيش السوري الحر» الى مختلف المنظمات الأخرى التي اضمحلّت واحدة بعد أخرى باستثناء الوحدات الكردية.
على هذه الخلفيات يمكن القيادة الروسيّة أن تتباهى في الذكرى السنوية الثانية للتدخّل في سوريا بأنها تحوّلت مقصداً للقوى الإقليمية والدولية وصولاً الى أمرين بارزَين لا يمكن تجاهلهما:
• الاول، إنتقال تركيا الى مرحلة الإستغناء عن الدخول الى الإتحاد الأوروبي من خلال حلفها الجديد مع روسيا وإيران والصين
• الثاني، الزيارة التاريخية التي سيقوم بها العاهل السعودي الى موسكو بعد غد الخميس، وهو أمر يبرز جلياً كتطوّر دراماتيكي بالنسبة الى السياسة الأميركية في سوريا التي قرّرت التخلّي عن حلفائها السوريين المحليين ما عدا الأكراد منهم بعدما قرّر الرئيس دونالد ترامب التعويض عمّا سمّاه انسحاب الإدارة السابقة من الأزمة السورية والتخلّي عن دور الولايات المتحدة في هذه المنطقة من العالم.
والأهم من كل ذلك نجاح الروس في توحيد اللائحة الخاصة بالمنظمات الإرهابية فاستدرجت الحلف الدولي بكل فئاته الى ضمّ المجموعات التي رعاها الى اللائحة عينها الى جانب «النصرة» و«داعش» ومنعتهم من ضمّ حلفائها اليها فاستدرجت الولايات المتحدة الى حروبها الخاصة في خدمة النظام وحلفائه، وهو أمر لم يكن يحتسبه أحد من الحلف الدولي الذي اعتقد أن ليس في استطاعة الروس، ولأسباب اقتصادية ومالية، خوض المواجهة الى النهاية الحتمية، فإذا بموسكو تعبّر عن قدرات هائلة استدرجت أحد أعضاء الحلف الدولي اليها وليس أبرز وأهم من زيارة الملك سلمان بعد غد لموسكو «عاصمة الإنقلابيين» بعد عامين على «الإنقلاب الروسي» في سوريا.