IMLebanon

أوكرانيا تشغل العالم

 

 

الوضع في أوكرانيا يشغل العالم ليس فقط لأهمية الدولة وإنما بسبب الحشد العسكري الروسي على حدودها والذي يمكن أن يؤدي الى حرب في أوروبا وربما مواجهة عالمية كبيرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.  حتى الآن تقول روسيا أنها لا تنوي احتلال أوكرانيا لكن القدرات العسكرية الروسية تكبر كل يوم ومن الممكن أن يؤدي هذا الضغط الكبير الى مواجهة مع قوات حلف شمال الأطلسي غير البعيدة جغرافياً. لا شك أن سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم حركت الغرب تجاه أوكرانيا. فالاثنان مترابطان الى أبعد الحدود.

 

على الساحة الدولية أوكرانيا غير معروفة كما يجب أن تعرف والجميع يتذكرها كجزء من الاتحاد السوفياتي السابق.  تبلغ مساحة أوكرانيا حوالي 600 ألف كلم2 مع حدود على الماء تبلغ طولها 2782 كلم.  عدد السكان حوالي 42 مليون نسمة لكن العدد يتناقص من سنة لأخرى كما هو حال العديد من دول أوروبا.  يبلغ العمر المرتقب 72 سنة مما يشير الى ضعف مستوى الخدمات الصحية مقارنة بدول أوروبا الغربية.

 

تحد أوكرانيا دول عدة منها روسيا البيضاء والمجر وبولندا وغيرها، لكن أهمها روسيا حيث طول الحدود يبلغ 1576 كلم. تحتوي أوكرانيا على ثروات طبيعية كبيرة ومعادن أهمها الحديد والفحم والغاز والنفط وغيرها.  أرضها زراعية والمياه متوافرة لانتاج العديد من السلع أهمها الحبوب والسكر وكافة أنواع الخضار.  بعد روسيا كانت أوكرانيا الجزء الاقتصادي الثاني من الاتحاد السوفياتي.  عانت كثيرا من أزمة الركود الكبير في 2008\2009، فوقعت اتفاقية مع صندوق النقد حصلت معها على قرض بلغ 16.4 مليار دولار.  تعثرت الاصلاحات بسبب سوء التنفيذ فانحدر النمو بنسبة 15% في سنة 2009.  بعد مفاوضات جديدة مع صندوق النقد في 2010 وبسبب حسن التنفيذ عاد النمو الى الاقتصاد لفترة قصيرة تعثر بعدها الاقتصاد أيضا لعدم تنفيذ الاصلاحات خاصة المصرفية.

 

بعد سنوات من التقلبات عاد النمو ليظهر مجددا في السنوات القليلة الماضية ولا شك بسبب ارتفاع أسعار مصادر الطاقة المتنوعة.  أوكرانيا دولة غنية ويمكن أن تشكل سببا للاهتمام الروسي بها كما سببا لاهتمام الغرب بها أيضا ليس فقط بسبب موقعها وانما بسبب الغنى في الطاقة التي يحتاج اليها الغرب. الحكم السياسي المستقل لأوكرانيا ليس قديما وبالتالي المعرفة في ادارة الدولة تقنيا محدودة.  التاريخ والزمن والاستمرارية أساسية لأي دولة، وهذا ما لا تعرفه أوكرانيا حتى اليوم.

 

أما السبب الأهم لرغبة روسيا في الغزو فهو سياسي بامتياز لأنها ترغب في لعب دورها التاريخي مجددا أي قوة سياسية عظمى تستعمل قوتها العسكرية لتحقيق أهداف سياسية.  بعد ان خسرت روسيا الاتحاد السوفياتي وبعد ان انحل حلف وارسو وبسبب محاولة الغرب جذب أوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي، كان لا بد لروسيا من أن تظهر غضبها بل معارضتها لهذا «الاذلال» الغربي الكبير.  لا شيء يحرك أكثر من الذل السياسي حتى لأعرق الدول وأقواها. روسيا تريد أن يتوقف الغرب عن جذب أوكرانيا اليه وخاصة أن تلتزم أوكرانيا ومعها الغرب في ابقاء حلف شمال الأطلسي بعيدا عن الحدود الروسية، وهذا ما لا تقبله أوكرانيا حتى الآن.  يظهر اننا نعود من جديد الى ما يشبه حرب باردة متعددة الأسباب أهمها سياسي واقتصادي.

 

في آذار 1985 عندما تسلم غورباشوف الحكم في الاتحاد السوفياتي لم يعتقد أحد أن الحرب الباردة ستنتهي بسلام. لم يرد غورباشوف استعمال الجيش لاخضاع دول أوروبا الشرقية كما حصل في الماضي وبالتالي سرَّع التغيير الحتمي. هذا يؤشر الى بُعد النظر والاحساس الكبير بتغير المزاج الشعبي سببه ربما الفشل الاقتصادي الذي عانى منه الاتحاد السوفياتي والمجموعة المرتبطة به. لكن بعد أربع سنوات، سقط حائط برلين وتغيرت الأنظمة وخلقت دول جديدة حرة وشكل ذلك عالماً جديداً مع أسس وقواعد جديدة ربما أكثر خطورة.  لا شك أن العلاقات الجيدة بين الرئيسين ريغان وغورباشوف ساعدت كثيرا في انهاء الصراع بسلام.  كما أن التعاون بين وزيري الخارجية شولتز وشيفارناتزي كان مثاليا وربما عكس ما يظهر اليوم بالنسبة للعلاقات بين الوزيرين الاميركي والروسي.  (ترامب \ بوتين) و (بايدن \ بوتين) لا يمكن أن يكونا كما (ريغان \غورباشوف) لأن الرؤية التاريخية البعيدة المدى غير موجودة اليوم. ريغان وغورباتشوف هدفا الى صناعة المستقبل والسلام وتغيير ملامح الكرة الأرضية، وهذا التحدي غير متوافر اليوم.  نوعية القيادات كما خطورة المواضيع مختلفة تماما.

 

كتب «مارتن ماليا» الأستاذ في جامعة بيركلي أن الاتحاد السوفياتي منذ نشأته لم يكن مشروعا جيدا وحمل في طياته الفشل المستقبلي.  السبب الأساسي في رأيه هو أنه لم يحترم الحريات وخاصة الحريات الاقتصادية والاعلامية، وبالتالي لم يستطع الاستفادة من الطاقات البشرية الهائلة التي يحتوي عليها. لا أحد ينكر الانجازات العلمية الكبيرة التي حققها الاتحاد السوفياتي في الفضاء وعلى الأرض، لكنها جميعها لم ينعكس بحبوحة للشعوب المعنية فكانت ناقصة أو جانبية. أما اليوم فالأوضاع في روسيا مختلفة مع بوتين وقبله، لكنها في نفس الوقت لم تستطع أن تنجح اقتصاديا وبقيت تعتمد على الغنى الأرضي في المواد الأولية.  من الأسباب الظاهرة غياب الحريات السياسية والمنافسة الديموقراطية الجدية للحكم الحالي والذي يمتد الى الدول المجاورة كبيلاروس والمجر وغيرها. يستمع بوتين لرأي الشعب قبل اتخاذ القرارات المهمة، وذلك عبر الاحصائيات المتوافرة كما يستفيد حاليا بشأن أوكرانيا من ضعف شعبية الرئيس بايدن التي تقيد حريته في اتخاذ القرارات الكبيرة. المعارضة الداخلية لبايدن كبيرة من قبل الجمهوريين وهذا طبيعي، لكن من قبل بعض الديموقراطيين فهذا يدعو للعجب.

 

الغنى الروسي في مصادر الطاقة معروف عالميا ولروسيا اليوم دور كبير في تحديد السياسات النفطية العالمية عبر مشاركتها في مجموعة opec+.  تسعى عبر المجموعة الى ابقاء أسعار النفط في مستويات مناسبة للدول المصدرة دون أن يعيق ذلك نمو الدول المستهلكة. لكن تنويع الاقتصاد الروسي لم يحصل بعد، فيبقى النمو الاقتصادي في حدود 2% سنويا مع فائض كبير في ميزان الحساب الجاري. الاحتياطي النقدي هائل ويفوق 550 مليار دولار.  مستوى البطالة في حدود 5% وهذا مقبول مقارنة بالدول الغربية، لكن الضمانات الاجتماعية غير متطورة كما هو حال دول أوروبا الشمالية. العالم مهتم جدا اليوم بأوكرانيا بسبب امكانية حدوث حروب خطيرة. لا بأس من أن تشغل أوكرانيا العالم شرط أن لا تشعله.