في العام 1972، قام الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون بزيارة مفاجئة للصين الشعبية وعقد لقاء مع الزعيم التاريخي ماو تسي تونغ. جاءت هذه الزيارة في ذروة الحرب الباردة بين الشرق والغرب في جنوب شرق اسيا وتحديدا في فيتنام وكمبوديا. جاءت أيضاً وسط خلاف عميق بين الصين والاتحاد السوفياتي على خلفية اتهام الحزب الشيوعي الصيني لنظيره السوفياتي بالتحريف! حقّقت ادارة نيكسون ووزير الخارجية الاستثنائي هنري كيسنجر خرقا كبيرا في العلاقات الدولية. ساهم تحييد الصين او التعاون الأميركي معها في محطات وقضايا عديدة في إنهيار الاتحاد السوفياتي بعد عقدين من الزمن وبالتالي انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم. في مطلع القرن الحادي والعشرين، تسارع نمو الاقتصاد الصيني بشكل مذهل وبات يشكل منافسا قويا لاقتصادات اليابان واوروبا واميركا. مع تزايد التنبؤات الاحصائية حول وصول الصين الى المرتبة الاولى في الاقتصاد العالمي، إنقلب منطق تعامل واشنطن تعبيراً عن خشيتها من تراجع هيمنتها دولياً. في العام 2016، وصل دونالد ترامب الى البيت الابيض حاملاً رؤية استراتيجية تقضي بالتحالف مع روسيا ومواجهة الصين في ما يشبه تحالف اثنين ضد ثالث الذي عقده نيكسون في سبعينات القرن الماضي. على الفور، تصدت له الدولة العميقة التي ترفض اي مهادنة مع روسيا وتمكنت خلال اقل من شهر من الاطاحة بمستشار الامن القومي الجنرال ميكل فلين الذي يحمل هذه الرؤية وأُرغم على تقديم استقالته. قبل ان يتسلم ترامب السلطة، طردت ادارة باراك اوباما عشرات الدبلوماسيين الروس واقفلت قنصليات ليجد ترامب نفسه فور وصوله بمواجهة ازمة مع روسيا عوض ان ينفذ رؤيته ويعزز العلاقة معها. الدولة العميقة التي تبدو أكثر قرباً إلى الديموقراطيين، حملها جشع تجارة السلاح والتكنولوجيا على الغرور والظن ان بامكانها مواجهة الصين وروسيا معا. لكن هذه «الدولة»، لا سيما إثر تسلم الديموقراطيين السلطة، واجهت مقاومة شديدة من روسيا والصين فكانت الذروة في لقاء الخامس من فبراير/ شباط 2022 بين الرئيسين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ حيث وقعا 15 وثيقة تعاون وأصدرا اعلاناً مشتركاً طويلاً حول ما سمي «دخول الشؤون الدولية في عصر جديد». تحول استراتيجي ما كان ليحصل لولا ان خيار الدولة العميقة يتمثل في مواجهة روسيا والصين معاً. هنا نقصد بالدولة العميقة التجمع الصناعي العسكري والتكنولوجي ومصارف وول ستريت التي تمول الانتخابات (بلغت كلفة انتخابات الرئاسة عام 2020 مليار دولار لكل مرشح وكلفة حملة السيناتور مائة مليون دولار) فضلا عن تمويل الاعلام المرئي والمكتوب والمسموع ووسائل التواصل الاجتماعي وبعض الافلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية عن طريق شركات اعلان مرتبطة بالتجمعات الصناعية والمصارف.
ثورات ملونة في العام 2019 اندلعت ثورة ملونة في ايران تمكنت اجهزة الامن من قمعها خلال اسبوعين، ومثلها في هونغ كونغ اشغلت الصين لنحو شهرين وثالثة في العراق اطاحت بحكومة عادل عبد المهدي، ورابعة في لبنان تشابكت عوامل عديدة في إفشال اهدافها وتدهور الاقتصاد اللبناني بناء على تراكمات سابقة من الفساد والهدر. في يناير/ كانون الثاني الماضي، إندلعت ثورة ملونة على يد «عناصر منظمة ومدربة في الخارج»، على حد قول الرئيس الكازاخستاني قاسم توكاييف. سيطرة على الساحات العامة ومحاصرة مقرات حكومية في العاصمة وكبرى مدن كازاخستان. لكن روسيا بدت متحسبة للأمر انطلاقا من تجربتي جورجيا واوكرانيا، فكان لا بد من تفعيل معاهدة الامن الجماعي بين بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق فتدخلت عسكريا وتمكنت بالتعاون مع القوات المحلية من انهاء محاولة زعزعة الإستقرار في الحديقة الجنوبية للاتحاد الروسي حيث تبلغ الحدود مع كازاخستان نحو 6500 كلم. وكانت طاجيكستان قد شهدت حربا اهلية بين العامين 1992 و1997 بين الاسلاميين والعلمانيين انتهت بتسوية لصالح العلمانيين. والسؤال الذي يقض مضاجع روسيا والصين: ماذا يحصل اذا نشبت حرب في اوزبكستان الدولة المحورية في اسيا الوسطى والمقيمة مع طاجيكستان على حدود افغانستان التي تحكمها طالبان في ضوء ما ورثت من ترسانة سلاح أميركي بدّدها الجيش الافغاني مع الساعات الأولى لإنسحاب الجيش الاميركي، لا سيما وأن أي إستهداف لآسيا الوسطى ستبلغ شظاياه فضاء روسيا والصين، وثمة خشية من ثورة ملونة ذي طبيعة اسلامية يتطاير تأثيرها الى تركستان الشرقية (إقليم صيني) حيث اقلية الايغور والى باقي دول اسيا الوسطى وإلى القوقاز داخل الاتحاد الروسي.
نورد ستريم 2
في العام 2015، تم الإعلان عن انشاء خط نورد ستريم 2، وهو انبوب لنقل الغاز من روسيا مباشرة الى المانيا عبر المياه الدولية لبحر البلطيق، اي أنه يتجاوز اوكرانيا وبولندا (تخسر الدولتان مليارات الدولارات سنوياً بدل رسوم المرور). انتهى العمل التقني في اواخر العام 2021 وبدأت اعمال الحصول على تصاريح التشغيل والعقود في ظل قلق اميركي لما يمكن أن يشكله هذا الخط من سلاح جيو سياسي بيد روسيا يعزز نفوذها في القارة الاوروبية ويزيد تشبيكها مع ألمانيا الصاعدة أوروبياً ودولياً. يبلغ طول هذا الخط 1230 كلم وكلفته 11 مليار دولار وتديره شركة غازبروم الروسية ويستطيع نقل كمية 110 مليار مكعب من الغاز الى المانيا ومنها الى باقي دول القارة الأوروبية. وكانت الولايات المتحدة قد استهدفت الخط بتشريعات عقابية طوال السنوات الماضية، اذ فرضت عقوبات على كل الشركات التي عملت في تنفيذ الخط ومنها سفينة مد انابيب تابعة لشركة غازبروم. يترافق انتهاء الخط مع قرار الحكومة الالمانية إغلاق اخر مفاعلاتها النووية في اواخر عام 2022 بعدما اغلقت ثلاثة مفاعلات في اواخر 2021. ومن المعروف ان المانيا دولة صناعية رئيسية في العالم وهي تحتاج للطاقة كما ان حزب الخضر المناصر للبيئة لديه كتلة برلمانية وازنة فوزيرة الخارجية انالينا بيربوك هي رئيسة حزب الخضر وهذا الحزب يرفض استخدام طاقة النفط والفحم التي تلوث البيئة كما يحذر من توليد الطاقة من المفاعلات النووية خشية حدوث تسرب على شاكلة تشيرنوبيل، لذلك هناك اتجاه عام في المانيا الصناعية لاستخدام الطاقة النظيفة، وهل أفضل من الغاز؟
ازمة اوكرانيا عارضت الولايات المتحدة واوكرانيا والعديد من دول الاتحاد الاوروبي مشروع نورد ستريم 2 منذ بدايته عام 2015 اعتقادا منها ان هذا الخط سيزيد نفوذ روسيا في اوروبا. هذا الملف كان في صلب محادثات المستشار الالماني أولاف شولز مع الرئيس الاميركي جو بايدن في 14 شباط/ فبراير الحالي. قال بايدن «اذا غزت روسيا اوكرانيا فلن يكون هناك نورد ستريم 2». وردا على سؤال قال شولز «سنتخذ الخطوات نفسها وستكون صعبة بالنسبة لروسيا». حاول بايدن تجاوز مفعول اغلاق نورد ستريم2 بان دعا امير قطر الى واشنطن وبحث معه امكانية التعويض عن اغلاق نورد ستريم 2 بامدادات من الغاز القطري المسال. لكن تبين ان قطر ارتبطت بعقود مع دول شرق اسيا لا سيما اليابان وكوريا الجنوبية وهي دول حليفة لها ولا يمكن الغاء عقودها. الدولة الاخرى التي تستطيع تعويض غاز نورد ستريم2 هي ايران وهذا أمر غير وارد لاسباب عديدة.