لا تزال المشكلة الأوكرانيّة حديث العالم، بل إنها تتحوّل مع الزمن الى كابوس يقضّ مضاجع المؤسّسات السياسيّة في العالم. ذلك ان المسألة الأوكرانيّة هي في الوقت عينه مشكلة محليّة واقليميّة ودوليّة. إنها تعبير عن سقوط النظام العالمي من جانب، وبالمقابل هي تعبير عن صعود نظام عالمي جديد على انقاض النظام السابق من جانب آخر. ان مبادرة بوتين باحتلال أوكرانيا سرعان ما تحوّلت الى صراع دولي بين الشرق الروسي والغرب الأوروبي بقيادة الولايات المتحدة.
من هنا خطورة الأمر الذي دفع بالرئيس الروسي الى استحضار القدرات النوويّة!
ما هي العوامل التي جعلت الوضعيّة الأوكرانيّة – الروسيّة – الدوليّة تصل الى ما وصلت اليه الآن؟
وهل من حلّ مناسب لهذه الاشكاليّة أفضل من حلّ التحييد؟
أولاً: في أوكرانيا كإشكاليّة جيو- سياسيّة.
1- كانت أوكرانيا جزءاً من جمهويات الاتحاد السوفياتي. ولكنها لم تكن كغيرها من الجمهوريات ان من حيث المساحة أم عدد السكان أم الشعور الوطني (القومي) أم الفائض الاقتصادي الزراعي (الحبوب)، أم الامتياز الثقافي الجامعي كمقصد للطلاّب الجامعيين من العديد من دول العالم.
2- هذه المميزات أعطت أوكرانيا قدرة المبادرة والإمكانيّة للاعتراض على السياسة الموسكوبية في أمور معيّنة الأمر الذي لم تكن بقيّة الجمهوريات السوفياتية تتجرأ على القيام به. هذه الخصوصية وضعت أوكرانيا في «بوز المدفع» وخاصة بوجود زعامة لديها ما يسمى «لوثة نبوية» أو جنون العظمة في موسكو. وهذا هو الوضع الآن بوجود الرئيس بوتين على رأس السلطة في الكرملين.
3- يختصر الرئيس بوتين في شخصه ونهجه السياسي – الفكري – العسكري مجموعة قناعات تصل معه الى حدود القناعة الايمانيّة:
• فهو يعتبر أن اعطاء خصوصية لأوكرانيا كان خطأ ارتكبه كل من لينين وستالين في آن.
• وان تفكيك الاتحاد السوفياتي كان خطأً استراتيجياً ارتكبه الرئيس غورباتشوف.
• وبالتالي من الضروري اعادة الامبراطورية الروسية الى اتساعها وشموليتها ودورها المحوري في تحديد مصير العالم المعاصر.
ومثل هذا الأمر لا يتم إلا باعتماد قيادة مركزية تتمثل بقيادة شخصية ذات سلطات عامة تستند اول ما تستند على القومية الروسيّة كعامل جامع لمختلف القوى الأقلّوية في روسيا وحولها.
من ضمن هذه القناعات يذهب الرئيس بوتين الى خلاصة مؤداها، ان اوكرانيا هي جزء من النسيج الروسي وينبغي ان تبقى كذلك. وبالتالي ينبغي إخضاعها لإرادة موسكو في كافة الخيارات السياسية والاستراتيجية وهو ما يحاول ان يفعله الآن عبر الغزو العسكري!
4- إن الرئيس الروسي، إذ يذهب لاخضاع أوكرانيا واعلان الحرب عليها يستجيب الى تمثّلاته السياسية والايديولوجيّة والعسكرية الشخصية فقط، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار التمثّلات العلميّة الموضوعيّة حول طبيعة الكيان الاوكراني كما يصنّفها علماء الجيو- استراتيجيا من فريدريتش راتزل الى جان غوتمان وهو ان اوكرانيا هي دولة – حاجز (Etat- TAMPON )
إنها دولة – حاجز بين دولتين متخاصمتين او تيارين متواجهين وهما هنا روسيا من جانب وأوروبا الغربية من جانب آخر وكان بالأمس حلف وارسو في مواجهة الحلف الأطلسي.
هذا يفسّر كيف ان بوتين يسعى لابقاء اوكرانيا داخل المعسكر الروسي في حين تسعى اوروبا لتحقيق انضمام اوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي. وهذا ما يفسّر سعي كل فريق لادخال الدولة – الحاجز اي اوكرانيا في خانته السياسية والعسكرية.
مثل هذا التجاذب، والذي نشهده الآن، وخاصة حول العاصمة كييف، وهي مركز له معناه ومدلوله السياسي والاستراتيجي، يؤدي عادة الى «تشليع» الدولة وتجزئتها وإخضاعها بما يشكل مصلحة للقوى التي تودّ ان تسيطر عليها.
وفي مثل هذا الصراع يكون لشعب الدولة – الحاجز (اوكرانيا) ولقيادتها (الرئيس فولوديمير زيلنسكي)، دور محوري في تحديد مسار الأحداث حتى في مواجهة الآلة العسكرية (الروسية) بما في ذلك تهديد القوى الغربية التي تساند الشعب الأوكراني بالأسلحة والدعم، باستنفار الأسلحة النوويّة.
عند هذه النقطة بالذات خرج موضوع اوكرانيا (الدولة الحاجز) من ان يكون مجرّد صراع سياسي – عسكري عادي، الى خطر وجودي استثنائي من خلال التلويح بالسلاح النووي.
إن هذا التلويح بالنوويّ طرح ويطرح الحل المطلوب والوحيد لأوكرانيا!
ثانيًا: الحل الوحيد المناسب: التحييد.
1- ان اوكرانيا شأن كل دولة في العالم بحاجة الى حماية لوجودها وحرّيتها وسيادتها واستقلالها وأمنها واستقرارها وازدهارها وللسلام فيها كجزء من السلام الاقليمي – العالمي. ومثل هذه الحماية تتأمّن عادة من قوتها الذاتيّة أو من احلافها وإلا فمن القانون الدولي اي: الحياد او التحييد.
2- الحياد يتم بمبادرة من الدولة التي تطلب الحياد لنفسها، في حين ان التحييد يفرض عادة من القوى الدوليّة العظمى عليها بموجب معاهدة دولية لأسباب تتعلق بالسلم العالمي ومقتضيات التوازن الدولي. وهذا هو وضع النمسا التي فرضت عليها الكتلتان الغربية والشرقية التحييد الدائم عام 1955. ذلك ان التحييد هو الحل الوحيد الذي يبعد شبح الحرب وانطلاق شرارتها من الدولة – الحاجز المعنيّة وهذا ما يذكر باستدعاء القوى النووية. إن التحييد هو الحل الوحيد لمنع هذه الدولة من ان تكون بؤرة للتوتر الدائم سواء على المستوى الداخلي ام الاقليمي ام الدولي. وهذا هو بالضبط وضع اوكرانيا بين روسيا من جانب والغرب من جانب آخر. وكل ما يجري الآن يدور حول هذا المحور الجيو- استراتيجي.
في الخلاصة: إذا كانت النمسا بالأمس قد استوجبت اعتماد حل التحييد الدولي القانوني والدائم لمنع شرارة الاحتكاك فيها من اشعال العالم آنذاك بين حلف وارسو وحلف شمال الأطلسي، فكيف بما يحدث الآن وضرورة منع شرارة الاحتكاك النوويّ الذي يهدّد العالم أجمع؟
لا يمكن للرئيس بوتين ان يدّعي حقه وقدرته في الاستيلاء على اوكرانيا بالقوّة وهي ترفض هذا الاستعمار المقنّع. كما لا يمكن لأوروبا والولايات المتحدة والغرب ان تدّعي حقّها في تمديد نفوذها وسلاحها الى تحت أنف موسكو بقيادة بوتين.
ان الخروج من هذا المأزق التاريخي العالمي المصيري والخطر، هو في فرض التحييد على اوكرانيا! إنه الحل الوحيد والمناسب في آن!