صدق من قال ينام العالم على شيء ويستفيق على شيء آخر. فمن كان يتوقّع مثلاً ان يجتاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا ويقلب الأمور رأساً على عقب، فيستنفر المجتمع الدولي في مشهدية تذكِّر، بشكل أو بآخر، بأحداث 11 أيلول، فهل سيكون العالم أمام عاصفة دولية جديدة؟
لن تنتهي مفاعيل حرب بوتين على أوكرانيا مع انتهاء الأعمال العسكرية، لأنّ الحرب التي شنّها ولدّت استفاقة دولية، وتحديداً أوروبية، بأنّ كل التراكم الدولي بعد الحرب العالمية الثانية على تعزيز مبادئ السلام ونبذ العنف وترسيخ الاستقرار وتوسُّل الحوار لحلّ النزاعات، أطاح بها بين ليلة وضحاها، وكأنّ لا وجود لأمم متحدة وشرعة عالمية وضابط إيقاع دولي.
وقد ولّد بوتين نقزة كونية بإعادة العالم مئة سنة إلى الوراء، عندما كان القوي يستقوي على الضعيف من دون رادع أخلاقي ولا قيمي، ولا احترام لسيادة الدول وحرّية شعوبها، كما ولّد المخاوف من نشوب حرب عالمية ثالثة مع تلويحه باستخدام السلاح النووي، أي الدمار الشامل، الأمر الذي يندرج في إطار المحظور العالمي والخطوط الحمر الدولية.
وروسيا ليست دولة عادية إنما كانت في ما مضى تتصدّر الحرب الباردة ضمن إطار الاتحاد السوفياتي والقطب الموازي للولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يفاقم الهواجس الأوروبية، بسبب المخاوف من الأطماع التوسعية لبوتين في إعادة إحياء أمجاد قديمة على حساب أمن القارة الأوروبية واستقرارها، ما يعني انّ مغامرته العسكرية لن تكون مسألة عابرة في الحسابات الدولية والأوروبية خاصة.
ويستحيل ان يخرج بوتين من هذه الحرب منتصراً، لأنّ انتصاره ليس على أوكرانيا، إنما على المجتمع الدولي بأسره، وسيكرِّس في حال انتصاره مفهوماً جديداً، كان الظنّ انّه طوي مع الحرب العالمية الثانية، وهو مفهوم الحدود المشرّعة للدول التوسعية من دون أي رادع، ما سيفتح شهية أكثر من دولة في العالم لأن تحذو حذو موسكو وفي طليعتها طهران، التي تنشر أساساً أذرعها في أكثر من دولة في المنطقة.
ويجب التمييز دائماً بين العدوان الروسي على أوكرانيا، وبين التدخُّل الدولي لرفع العدوان، على غرار إخراج الرئيس صدام حسين بالقوة من الكويت، فالتدخُّل الأول مدان والتدخُّل الثاني مطلوب، وكان يُفترض ان يحصل في سوريا لإزالة حكم الأسد ومنع موسكو وطهران من دعم النظام السوري ضد شعبه التوّاق إلى الحرّية، لأنّه في اللحظة التي تشعر فيها بعض الدول التوسعية بالتراخي الدولي لا تتأخّر في التمدُّد على حساب الدول الصغرى، وقد يكون اجتياح بوتين لأوكرانيا مناسبة، على رغم مساوئها، من أجل أن يستفيق العالم من سباته، وتحديداً القارة العجوز، التي تكاد تخرج من الجغرافيا والتاريخ، بعدما باتت بلا موقف وبلا قيادات وبلا قرار، وما زالت تعيش في عقدة الحربين العالميتين الأولى والثانية. فهل ستتحرّر هذه القارة من هذه العقدة، لتنتقل من الدور الانسحابي والانكفائي إلى الدور الريادي والاقتحامي؟
فلا يجوز ان يُحكم العالم بهذا القدر من الاستسلام والانسحاب من القضايا الكونية والإنسانية والأخلاقية والقيمية، وكل مفهوم العدالة ساقط في حال لم يستند إلى القوة، فلا عدالة من دون قوة تحقيقاً للمساواة وتطبيقاً للقانون. فنقطة ارتكاز العدالة هي القوة العادلة التي تشكّل المدخل والمعبر لتحقيق المساواة والعدل، وسوى ذلك فإنّ البشرية ستعاود حلقات العنف والجنون، في كل مرة تبرز عقيدة جديدة-قديمة ومنتهية الصلاحية إنسانياً، او يخرج قائد جديد يعتبر نفسه ينفِّذ مهمّة إلهية.
غير صحيح انّ الديموقراطية تتناقض مع وجود قيادات سياسية تتمتّع بالكاريزما وتكون صاحبة موقف وقرار، لأنّ الديموقراطية لا تعني الميوعة والتردُّد وعدم الحزم والفوضى، إنما تعني الالتزام بالدستور والقوانين المرعية والشرعية الدولية وعدم السماح بكل ما يتجاوز القانون الدولي، ومن وظيفة الدول الكبرى ان تشكّل رادعاً معنوياً وأخلاقياً وعسكرياً لكل ما يمكن ان يمسّ بالانتظام العالمي.
وبعد ان هزّت أحداث 11 أيلول الكيان الأميركي ونقلت واشنطن من الدور الديبلوماسي إلى العسكري، وتولّت إسقاط نظامي طالبان وصدام، فإنّ السياسة الأميركية ظلّت متأثرة بهذه الأحداث لعقد من الزمن تقريباً، وبالتالي من المتوقّع ان تبقى القارة الأوروبية تحت تأثير الحرب الروسية التي ستضعها أمام احتمالين:
الاحتمال الأول، ان تواصل السياسة الإنكفائية ذاتها، ولكن الضربة في عقر دارها ستؤدي إلى مزيد من التفلُّت والتشرذم وعدم الثقة والفوضى، أي مزيد من الإنكفاء والانسحاب من قضايا العالم، والخطورة هذه المرة على مستقبل هذه القارة وأمن دولها واستقرارها.
الاحتمال الثاني، ان تستعيد المبادرة وان تخرج من حالة المراوحة والتردُّد واللامبالاة، وان تنتقل من ردّ الفعل إلى الفعل، وان تشكّل الصدمة الروسية يقظة شعبية محورها وجوهرها ومرتكزها، انّ الميوعة السياسية ستقود إلى حرب عالمية ثالثة، وانّ لا مجال لوقف هذا الاحتمال الكارثي على مستوى البشرية جمعاء سوى من خلال إدارة حازمة على المستوى الدولي.
وإذا كانت الاندفاعة الأميركية على اثر أحداث 11 أيلول قد وصلت إلى الحدود السورية ودفعت النظام السوري إلى إخراج جيشه من لبنان، فإنّ الاندفاعة الدولية بركنيها الأميركي والأوروبي تحديداً هذه المرة على اثر اجتياح روسيا لأوكرانيا، لن تقف عند الحدود الروسية بل ستصل عند الحدود الإيرانية، ولن تتمكّن طهران من مواصلة دورها المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط، لأنّ ما قامت به موسكو اليوم، تقوم بالأمر نفسه طهران منذ عقود ولكن بأسلوب أمني، وهذا ما يفسِّر الموقف الإيراني المعارض للاجتياح الروسي، ليس حرصاً على أوكرانيا واستقرارها، إنما خشيةً من استفاقة دولية تمنع اي دولة من أدوار عسكرية أو أمنية خارج حدودها الجغرافية.
فمرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، أشار بوضوح الى أنّه «يعارض الحرب في أوكرانيا ويدعم إيقافها»، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي اتصل بالرئيس بوتين وقال له «إنّ الجمهورية الإسلامية تفضّل وتنصح بتوخّي الحذر واعتماد الحلول الديبلوماسية»، والسبب الرئيس لهذا الموقف الإيراني تجنُّب انتقال المجتمع الدولي من التراخي إلى التشدُّد، وبما ينعكس على المفاوضات النووية في فيينا وينقل الحديث إلى الدور الإيراني كشرط ملزم لأي اتفاق نووي.
وبمعزل عمّا إذا كان بوتين قد استُدرج إلى المستنقع الأوكراني، أو انّ ثقته الزائدة بنفسه دفعته إلى خطوة متهورة وغير محسوبة، فإنّ النتيجة مبدئياً واحدة، وهي انّ العالم دخل في مرحلة جديدة ما قبلها غير ما بعدها، ولن يكون هناك من تهاون دولي من الآن فصاعداً مع دول لا تقيم وزناً ولا اعتباراً لحدود أدوارها والشرعية الدولية، خصوصاً انّه في حال تُركت على سجيتها يمكن ان تورِّط العالم بحرب كونية جديدة.
فالرئيس بوتين أيقظ القارة الأوروبية على مخاطر سلوكها الإنكفائي، وسيُخرجها من قمم انطوائيتها، وسيكون العالم والشرق الأوسط تحديداً أمام 11 أيلول أوروبي، والمتضرِّر الأول منه بعد موسكو ستكون طهران وأذرعها في المنطقة، وسيبدأ العدّ العكسي لإنهاء دورها الأمني وانكفائها إلى داخل حدودها، والمستفيد الأول سيكون لبنان.