من طبائع الأمور أن تتحسّس كل دولة رأسها وتفكر في مصالحها وتتحسب لما يؤثره عليها سلباً أو إيجاباً غزو روسيا لأوكرانيا. لكن من سوء التقدير في الحسابات أن تسارع دول ومنظمات الى التصور أنها رابحة والتصرف سلفاً على هذا الأساس في معارك تخوضها سواء في الإطار الإقليمي أو في الشؤون الداخلية. فالعالم في حرب ينطبق عليها قول إبراهام لينكولن: “حين تبدأ حرباً فإنك تفقد السيطرة عليها وتصبح أسيرها”، وقول وزير الدفاع الأميركي سابقاً روبرت غيتس: “عندما تبدأ حرباً، فإنها تصبح غير قابلة للتكهن”. وحرب أوكرانيا أكبر من الميدان الأوكراني وما يحدث فيه، ومن طموحات فلاديمير بوتين وروسيا الى “هندسة نظام أمني أوروبي وعالمي” لا طرف يستطيع فرضه بالقوة. حتى “المصالح الأمنية المشروعة” لروسيا، فإنها تخسر المشروعية حين يصبح الغزو العسكري هو الوسيلة.
وليس أمراً قليل الدلالات أن تمتنع إيران والصين عن التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة على القرار الذي أدان الغزو الروسي بأكثرية141صوتاً ضد خمسة أصوات فقط لروسيا، سوريا وكوريا الشمالية وأريتريا وبيلاروسيا، وامتناع 35. إيران لأنها لا تريد تدمير فرصة رفع العقوبات وعودة أميركا الى الإتفاق النووي. والصين لأن مصالحها الإقتصادية والتجارية كبيرة مع أميركا وأوروبا، وحساباتها كقوة عظمى تختلف عن حسابات روسيا برغم التحالف معها. ولم يكن تصويت لبنان الى جانب القرار الأممي باتفاق رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي سوى تقدير لمصلحة لبنان بعد”عاصفة” الإعتراض على بيان الخارجية الذي أدان الغزو والتنصل من المسؤولية عنه وتركها على أكتاف الوزير عبدالله بو حبيب. وما كشفه هو أن ضعف الآخرين جزء من قوة “حزب الله”وتحكمه.
ذلك أن الإعتراض جاء بشكل أساسي من “حزب الله” الذي بنى وجوده وصعوده على مقاومة الإحتلال الإسرائيلي. لا بل ان الإعتراض توسع الى ما هو أكثر من الوساطة الأميركية في ترسيم الحدود البحرية. فضلاً عن وضع المعركة الإنتخابية في إطار “حرب تموز سياسية”، والإصرار على “أبلسة” الخصوم وإبقاء الأكثرية النيابية والرئاسة ضمن حلفاء “الحزب”. والترجمة العملية لذلك هي القول: نحن المرجعية. فالوقوف وراء موقف الدولة كان مجرد تكتيك لتركها تقوم بالتفاوض مع إسرائيل وأميركا، على أن يبقى القرار الإستراتيجي لنا. حتى الكلام على مواقف رئيس الجمهورية، فإنه ينطلق من الإختلاف أو اللاإختلاف مع موقف “حزب الله”ورضاه أو عدم رضاه، كأن المقياس الوطني هو سياسة “الحزب”.
لكن محور الإنتخابات النيابية هو لبنان، وليس “المقاومة الإسلامية”. والمعركة تدور على مستقبل لبنان، بصرف النظر عن حسابات “حزب الله” وتصوره لمستقبله. فلا تبدّل الأكثرية النيابية في إنتخابات ديمقراطية هو “حرب أعداء” على الأكثرية الحالية. ولا الهيمنة الإيرانية هي الفصل الأخير في كتاب لبنان العربي الهوية والإنتماء.
يقول جان جاك روسو في “العقد الإجتماعي” إن “الإنكليز مخطئون في الظن أنهم أحرار، فهم أحرار مرة كل أربع سنوات”. دعوا اللبنانيين أحراراً ولو مرة كل أربع سنوات.