فتشبّهوا إنْ لـمْ تكونوا مثلَهُمْ… لأنّنا لـمْ نتشبّـه بهم، إنقسمنا على أنفسنا عندما أصدرتْ دولتنا «الجليلة» بياناً حـول تعرُّضِهمْ للغـزو الروسي، مثلما أنقسمنا على أنفسنا حيال ترسيم الحدود ، والمبادرة الكويتية، والتدقيق الجنائي، وحـول كـلِّ جنائي وتدقيقٍ وترسيمٍ ومرسومٍ وحدود.
ليس من حـدث خارجي: سياسي أو مذهبي أوْ أمني، إلاّ ويسارع المرصد اللبناني إلى التقاطهِ، فإذا لكلِّ حدَثٍ لبنانُـه، ولكلِّ خارجٍ لبنانُـه، ولكلّ طائفة لبنان.
وبهذا المعنى يكون نصفُ اللبنانيين مع أوكرانيا، والنصفُ الآخر مع روسيا، ونصفٌ يذهب غربـاً، ونصفٌ يذهب شرقاً، ولبنان سويسرا الشرق عندما يكون نصفُه ضـدَّ نصفِـه، يصبح نصفَ وطـنٍ، ونصفَ دولةٍ، ونصفَ سيادةٍ ونصف كيان.
عندما أطلق الرئيس صائب سلام شعار: «لبنان واحد لا لبنانان»، كان على الحكم طبقةٌ تحاول قـدر الإمكان أنْ تُحيِّـد انقساماتها عن الإنشقاق الوطني الكبير.
فكيف إذا كان الحكم طرفاً انقسامياً ثالثاً في نـزاع الثنائيات، وتكون الرئاسة الأولى رئاسةً ثنائية، إذْ ذاك تصبح كلٌ مـنْ رئاسة السلطة الثانية، ورئاسة السلطة الثالثة مستقلةً بذاتها ويتحوّل لبنان إلى ثلاثة لبنانات.
عندما شـنّ الرئيس الروسي «فلاديمير بوتيـن» حربَـه على أوكرانيا، بهدف اقتلاع «النازية» بالنازية، وتجريد الدولة الأوكرانية من سلاحها، لم يكن يحسب حساب ذلك السلاح الخفيّ الذي إسمـه وطنيـةُ الشعب الأوكراني، وإنّ أوكرانيا ليست ثلاث أوكرانيات.
أربعة وأربعون مليون مواطن أوكراني يصمدون في أرضهم، إلاّ الذين تعرضوا للنزوح القسري…
متطوّعون من الشعب يحفرون الخنادق الدفاعية للجيش…
ثمانون ألـف أوكراني تركوا وظائفهم في دول أوروبية وعادوا إلى بلادهم للقتال مع قـوات الدفاع الشعبي.
رجـلٌ أعـزل، وآخـر ذو ساقٍ إصطناعية يعترضان قافلة مدرّعات روسية، ويلتف حـولهما الشعب «إرفعوا أيديكم عن أوكرانيا».
نائبة في البرلمان وملكة جمال يحملان السلاح إلى جانب العديد من النساء «نساؤنا مستعداتٌ للموت دفاعاً عن الوطن مثل رجالنا».
الأوركسترا الأوكرانية تعزف الأناشيد الوطنية في ساحة الميدان وسط العاصمة «كييف» في مواجهةٍ لعربدة الطيران الروسي في الجـوّ.
بهذا النوع من الصمود الوطني والمقاومة السلمية والوحدة الشعبية، قاومَ «غاندي» الإحتلال البريطاني، وحين طلب من الهنود مقاطعة البضائع الإنكليزية كانتْ أطنانٌ من الأقمشة البريطانية تحترق في ساحات الهند العامة.
حتى، ولو احتلّت روسيا أوكرانيا، فلا تستطيع أنْ تطبِّـع وطنية هذا الشعب الأوكراني، بل سينتصر بالسلاح الروسي، مثلما أنّ روسيا القيصرية لم تنتصر على إلمانيا وفرنسا بحروبٍ شنّتها عليهما، بل انتصرت بانكسار هتلر ونابوليون في حربهما الهجومية على روسيا.
في معـزلٍ عن الموقف السياسي، لا بـدّ من التنويه بهذه الوطنية الأوكرانية التي أثبتَتْ وجودها الكياني عبـرَ غيـرِ امتحان تاريخي: منذ حرب الإستقلال الأولى بين جمهورية أوكرانيا الشعبية وجمهورية روسيا السوفيانية «1917 – 1921» إلى أنْ وقّعتْ روسيا إتفاقية احترام استقلال أوكرانيا 1994.
الشعوب العريقة تتعرّض للإجتياح، للتهجير، للنزوح إلاّ أنها لا تهجّـر الوطن والتراث من كيانها الوجداني.
الأيرلنديون في نيويورك ما زالوا يرفعون أعلام إيرلندا يـوم «سانت باتريك» لتأكيد ولائهم للتراث الوطني.
إذاً تَمثَّـلوا بهمْ، على ما يقول الشاعر:
فتشبّهوا إنْ لـمْ تكونوا مثلَهُمْ إنّ التشبُهَ بالكرامِ فـلاحُ.