IMLebanon

سوف نبقى

 

 

في 28 كانون الثاني من العام 1919، قدّم المفكر السياسي «ماكس فيبر»، وهو أحد مؤسّسي السوسيولوجيا الحديثة، واحدة من أهمّ المساهمات في النظرية السياسيّة الحديثة في محاضرة بعنوان «السياسة كمهنة» Politics as a Vocation. وفي عصر الديماغوجيّة الذي نعيشه اليوم، تشكّل تلك المحاضرة خريطة ثمينة للساحة السياسيّة كما كانت قبل 100 عام. وفي محاضرته هذه عرّف الدولة بأنّها: «الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية»، وأصبح هذا التعريف محوريّاً في دراسة علم السياسة.

 

وما زالت هذه الحكمة تنطبق حتّى اليوم لا سيّما بالنسبة إلى الأخلاق السياسيّة التي تُطَالَبُ بها الطبقة السياسيّة الحاكمة. ولا يمكن بعد اليوم في العالم كلّه التغاضي عن الإجرام السياسي تحت حجّة المصلحة القوميّة العامّة. من هنا، إنّ ما يحصل اليوم في أوكرانيا يتخطّى الأبعاد الإنسانيّة كلّها بحجّة الأمن القومي والاستراتيجي لروسيا. وما حصل في لبنان في السنوات الثلاثين الماضية من تجاوزات لجوهر الدّولة ولكيانيّة الوطن إنّما كان تحت حجّة مقاومة العدوّ التي تمّ سلبها من مصدر القوّة الحقيقي في الدّولة.

 

ولن يستطيع حقّ القوّة أن يتغلّب على قوّة الحقّ. وإن حصل ذلك مرّة فهو لن يستمرّ. فمفعول الثورة الأوكرانيّة التي حصلت في العام 2004 وقلبت دفّة الحكم يتمّ العمل على إبطاله بحقّ القوّة. تماماً كما أبطلت ثورة الأرز بحقّ القوّة من خلال سلسلة الاغتيالات والتصفيات والانقلابات والتسويات حتّى أفرغت هذه الثورة من مفاعيلها كلّها. لكن ما لن يستطيع مالك القوّة أن يأخذه بالقوّة هو هذا « الحقّ» الذي إن أُخِذَ من الإنسان فقد إنسانيّته.

 

ودليلنا في ذلك أنّ روح ثورة 14 آذار ما زال فاعلاً في النّفوس، وما يثبت هذه النّظريّة هو استمرار المقاومة السياسيّة للإحتلال الإيراني المتمثّل بسيطرة «حزب الله» وحليفه، وهذا ما سيستمرّ في حال وجود ما يبطل جوهر قيام الدّولة كما فسّره المفكّر «فيبر». وفيما لو بقيت الدّولة محتكرةً الإستعمالَ الشرعي للقوّة الطبيعيّة في لبنان لما تمكّن أيّ فريق من زعزعة الأمن أو التهديد بسابع من أيّار جديد. ولما تبجّح أحدهم بنقل الإشكاليّة من سلب الدّولة جوهر وجودها إلى إشكاليّة نظام وصيغة ودولة مدنيّة ونظام رئاسي وما شابه ذلك من موضوعات، قابلة للبحث لكنّها ليست الجوهر المطروح.

 

هذه الدّيماغوجيّة ساقطة ولم تعد تنطلي على أحد. وهذا النّهج هو نهج شيطانيّ مدمّر للإنسان بحدّ ذاته وخدمة للشرّ المطلق. ولا يمكن محاربة هذه التيّارات إلا فكريّاً. فأيديولوجية الموت التي يدرّسها «حزب الله» في مؤسّساته التربويّة تحت عنوان المقاومة لن تنتج سوى وطن في خدمة الشرّ. والدليل على ذلك أنّ كلّ مَن تعامل مع هذه الأيديولوجية باع هو نفسه للشرّير مقابل أن يمنّ عليه بخيراته. ورأينا كلّنا أين أوصل هذا النّهج لبنان. لقد أوصلوه بسرعة الضوء إلى موطن الشيطان أي إلى جهنّم حيث هم يرتاعون ويرتاحون بحسب قولهم.

 

ولن نستطيع تحقيق الخلاص سوى باستعادة هيبة الدّولة وحقّها باحتكار القوّة الطبيعيّة من دون أيّ شريك معها وتحت أيّ مسمّى كان. ونخشى اليوم أن يتمّ استخدام هذه القوّة الشيطانيّة مرّة جديدة لمنع قوّة الحقّ من أن تقول كلمتها في صناديق الاقتراع. أو بخطاب آخر، أن يستخدم حقّ القوّة هذا أدواته العنفيّة والترهيبيّة في محاولة لقلب الواقع الانتخابي. ولنا في بعض ما حصل في انتخابات 2018 خير نماذج عن ذلك. وإن نجح هذا المحور بذلك فسندخل في «ليل قطبيّ من الظلام والصلابة الجليديّة» كما كان يعبّر «فيبر».

 

يجب ألا نكون يساريّين لا نسترشد إلا بأمانتنا لمبادئنا في إرادة البقاء بصرف النّظر عن النتائج. ويجب ألا نكون يمينيّين متطرّفين متصلّبين في مقاومتنا؛ بل يجب أن نكون حكماء كالأفاعي وقت اللزوم. وكما كان «فيبر» يعرف أنّ أشياء شريرة يمكن أن تنبثق من أفعال خيّرة، كذلك يمكن أن يحدث العكس. وهذا ما يجب على اللبنانيّين جميعهم أن يفهموه اليوم وليس غداً. وذلك لن يكون إلا باستثمار ثورة فكريّة توفّر نواة صلبة غير راديكاليّة تستطيع وحدها قيادة التغيير المنشود لتفتح حركة التاريخ على إمكانات للتغيير الجذري.

 

وفي هذا السياق، تحتفظ آراء «فيبر» بقوّتها في ديمقراطيّات شكليّة تكتفي بالدعم اللفظي للحريّة والمساواة. وقد تستخدم العنف أحياناً للوصول إلى أهدافها. ولنا في أنظمة حكم الحزب الواحد خير نماذج عن هذه النّظم. والتقييم الفذّ للديماغوجيّة يساعدنا اليوم على فهم صعود هؤلاء السلطويّين الكارزميّين الذين قادوا أجهزتهم الحزبيّة. والأمثلة عديدة في لبنان. ولن نستطيع التغلّب على هذا النّهج الشيطاني في السياسة ما لم نتّسم بالأخلاق السياسيّة التي تقوم على سلّم القيم الحقيقية. ولن يتحقّق أيّ تغيير سياسي فعليّ في لبنان ما لم نستطع نقل الإنسان من محور الشرّ الذي ألقي فيه إلى محور الخير، وذلك لن يتمّ إلا بالمواجهة الفعليّة بدءاً بنهضة تربويّة وليس انتهاءً بثورة حضاريّة. وإن لم يكن مكتوباً لها النّجاح بالأساليب الديمقراطيّة فتاريخنا يشهد على أنّنا «سوف نبقى يشاء أم لا يشاء الغير، لا بدّ في الأرض من حقٍّ وما من حقٍّ ولم نبقَ نحن».