IMLebanon

انعكاسات الحرب الأوكرانية

 

الحرب الروسية على أوكرانيا ليست محلية أو اقليمية فقط، بل ذات تأثير دولي ليس فقط بسبب أرضيتها الواسعة بل خاصة بسبب تأثيرها على النمو العالمي وأسعار السلع الغذائية والمحروقات كما المعادن ومؤشرات الفقر. توقعات صندوق النقد الدولي التي صدرت خلال الاجتماع الربيعي أكدت على انحدار الاقتصاد الدولي من نمو 6,1% في 2021 الى 3,6% هذه السنة. كل المناطق تعاني من الانحدار مع نسب تختلف من منطقة الى أخرى. نمو الدول الصناعية ينحدر من 5,2% في 2021 الى 3,3% هذه السنة. أما الدول الناشئة والنامية فنموها يسقط من 6,8% السنة الماضية الى 3,8% هذه السنة.

 

التجارة الدولية تنحدر وكذلك معظم المؤشرات الأخرى، باستثناء التضخم الذي يرتفع بين سنتي 2021 و 2022 من 3,1% الى 5,7% في الدول الصناعية ومن 5,9% الى 8,7% في الدول النامية والناشئة. يمر الاقتصاد الدولي في ظروف استثنائية صعبة ربما تدوم طويلا. هنالك خطورة واضحة وهي امكانية تحولها الى حرب أكبر اذا حاولت مثلا روسيا الهجوم على احدى دول حلف شمال الأطلسي أو اذا حاولت واشنطن استفزاز روسيا عبر ضرب طوق سياسي أوسع عليها أو عبر منح أوكرانيا أسلحة ذات قدرة أكبر. تأثيرات الحرب تتعدى الجغرافيا المحدودة لتصل الى تحديد سياسات جديدة قصيرة وطويلة الأمد كما يلي:

أولا: في الغرب هنالك من ينادي بتحويل الاقتصادات الغربية الى اقتصادات حرب كي تستطيع مواجهة المد الروسي العسكري. هذا يتطلب اتخاذ قرارات عامة في غاية الجدية أي مثلا تحويل الصناعات المختلفة كالسيارات والطائرات الى صناعة أسلحة وآليات حربية وغيرها. كما تحويل صناعات الألبسة الى أخرى تنتج الثياب العسكرية التي تحتاج اليها الجيوش. هنالك ضرورة عندها لتحويل الاقتصادات من استهلاكية الى انتاجية عبر دعم الشركات وتخفيف الهدر وترشيد الانفاق. هنالك ضرورة عندها لتعزيز أوضاع العمال أكثر عبر رفع الأجور مع العمل ساعات أطول بالاضافة الى الساعات الايضافية التي يمكن أن تكون مرهقة. يتحول الاقتصاد عندها الى تلبية حاجات الحرب وليس أكثر أو أقل وهذا يتطلب أكثر من قرارات سياسية، بل دعم شعبي كبير لهذا التحول.

ثانيا: في روسيا التي هاجمت أوكرانيا، الخسائر المادية والبشرية كبيرة. التأثيرات واضحة على المعيشة بسبب تحويل كل الايرادات الى الحاجات الحربية بدل الاستثمار في النمو والتنمية. الشركات الغربية غادرت احتجاجا كما بسبب ظروف العمل الشاقة وغياب العمالة المتخصصة، وربما لن تعود بسهولة بعد انتهاء الحرب. رفع المصرف المركزي الروسي الفوائد لدعم الروبل مما يعني أن تكلفة الانتاج ستكون أعلى. بعد رفعها من 9,5% الى 20%، خفضت الى 17% لكنها تبقى مرتفعة ولا تشجع حتما على الاقتراض والاستثمار. تشير التوقعات الدولية الى امكانية سقوط الاقتصاد الروسي حوالي 8,5% هذه السنة وهذه تكلفة مرتفعة جدا. تعاني روسيا من العقوبات خاصة المالية والمصرفية التي وان حاولت ادارة الرئيس بوتين التخفيف من تأثيراتها تعطل دون شك الحياة الطبيعية للمواطن الروسي ولقطاع الأعمال. من ناحية أخرى يظهر أن هنالك تعب غربي وخاصة أوروبي من العقوبات التي تضر أيضا بالمصالح الأوروبية التي تعتمد منذ سنوات على الطاقة المستوردة من موسكو. منذ بداية الحرب، ما تبرعت به أوروبا لأوكرانيا لا يشكل الا جزأ صغيرا مما تدفعه لروسيا بسبب استيراد الطاقة.

ثالثا: التأثير على الاقتصاد العالمي كبير أي التضخم والذي يفرض عمليا على المصرف المركزي الأميركي رفع الفوائد لضرب زيادة الأسعار لكن حتما على حساب النمو وأسعار الأصول. هنالك تغيير في القرارات الداخلية الغربية خاصة المالية والذي يظهر جليا في الموازنات الجديدة. هنالك انفاق سيتزايد على النشاطات الحربية. قررت ألمانيا مثلا اضافة 100 مليار يورو على انفاقها العسكري والدول الأخرى تحاول جاهدة تحقيق بعض الاضاقات. هنالك موضوع النازحين الذي يقلق كثيرا لأنه ليس مشكلة آنية مع الخراب الكبير الذي نراه في المدن الأوكرانية. هنالك ضرورة لمساعدة الدول المستقبلة كرومانيا وبولندا كي تبقى صامدة في وجه الحاجات الكبيرة الانسانية والصحية والاسكانية.

رابعا: مشكلة اللاجئين كبيرة بالرغم من التعاون الواضح لدول الجوار. بعض الدول الأوروبية يعمل بقوة لاستيعاب العمالة الأوكرانية ويؤمن لها فرص عمل بعد تمكينهم اللغوي. ألمانيا مثلا عرضت 300 ألف فرصة عمل للأوكرانيين في قطاعات عدة. البرتغال تدرب الأوكرانيين على اللغة وتعرض فرص عمل، كذلك الأمر بالنسبة الى تشيكيا التي عرضت 364 ألف فرصة.

هنالك تحولات مهمة في الاقتصاد الدولي نتيجة الحرب الأوكرانية. الاقتصادي «أرثر لويس» الذي حاز على جائزة نوبل للاقتصاد يقسم كل اقتصاد نامي الى جزأين صغير منتج ومتقدم، وآخر كبير متأخر وذو انتاجية متدنية. الاقتصاد المتطور هو متجانس وذو طبيعة واحدة وهذا تغير اليوم، اذ أن العديد من الاقتصادات الصناعية أصبح يعتبر ناميا من ناحية هيكلياتها الداخلية. هنالك في رأي الاقتصادي «بيتر تيمين» مناطق متطورة وأخرى متخلفة داخل الاقتصادات الصناعية بما فيها في الولايات المتحدة. يتكلم الاقتصاديون عن التقارب بين الدول المتقدمة والنامية، أي نسب نمو قليلة للمتقدمة وعالية للنامية مما يسمح مع الوقت للتلاقي وهذا ما حدث في فترات سابقة متعددة. أما اليوم، من المتوقع أن يحصل التلاقي لكن على نسب نمو متدنية وربما سلبية بسبب انحدار كل الاقتصادات كما توقع صندوق النقد. كل الدول تعاني من نفس المشاكل ولم يعد ما يميز الغني عن الفقير.

تبقى هنالك مشكلة مهمة يمكن أن تعرقل كل شيء وهي توقعات المواطنين التي هي عموما سلبية. مهما حاولت حكومات الدول تنفيذ سياسات حكيمة وصحيحة، ستفشل اذا اعتقد المواطن العكس. هنا تكمن ضرورة تفسير السياسات للمواطنين قبل وضعها موضع التنفيذ. مثلا اذا قررت الحكومة زيادة الانفاق لتشجيع المواطنين على رفع مستوى المعيشة، يمكن أن يحصل العكس تماما اذا اعتقد المواطنون ان رفع الانفاق يؤدي الى ديون عامة مستقبلية عالية وبالتالي لا ينفقون فتعود الأمور الى الوراء. نفس الموضوع بالنسبة للسياسة النقدية حيث أن رفع الفوائد يجب أن يؤدي الى لجم التضخم وهذا منطقي. الا أن توقعات المواطنين يمكن أن تفشل هذه العلاقة، بحيث يرفع المركزي الفائدة فيستمر المواطن في الاقتراض خوفا من مستويات فائدة أعلى وبالتالي يرتفع مؤشر التضخم. السياسات الاقتصادية أصبحت اليوم معقدة أكثر من أي وقت مضى وتتطلب مشاركة أكبر من قبل المواطن لغاية الانجاح.