في الوقت الذي كان المفاوض الاميركي عاموس هوكشتاين يجول في لبنان ويجتمع مع المسؤولين الكبار ويتبلّغ الموقف الموحّد حول الترسيم البحري، كانت اسرائيل تشهد زيارات اوروبية رفيعة المستوى للبحث في مسألة شراء اوروبا للغاز الاسرائيلي.
وما إن أنهى هوكشتاين مهمته في بيروت والتي بَدا في نهايتها راضياً عن نتيجتها، كانت وزيرة الطاقة الاسرائيلية توقّع اتفاقاً لتصدير الغاز الطبيعي الى الاتحاد الاوروبي ولمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وذلك من خلال انبوب موجود في مصر حيث سيتم تسييله قبل نقله الى اوروبا.
هوكشتاين الذي وصل الى لبنان مطمئناً الى حد ما، غادره اكثر تفاؤلاً حيث أسرّ قُبَيل رحيله ان العرض اللبناني معقول والاهم انه عرض واحد باسم الجميع وهو كان يعني ضمناً ان «حزب الله» موافق عليه. وفي اسرائيل كانت رئيسة المفوضية الاوروبية تطالب بمضاعفة التعاون بين اسرائيل والاتحاد الاوروبي على خلفية ازمة الغاز الناتجة من حرب اوكرانيا وكان لافتاً عدم تطرّقها بتاتاً الى الملف الفلسطيني ولا حتى الى الملف النووي الايراني، رغم ان هذين الملفين شكّلا محاور دائمة لنقاش المسؤولين الاوروبيين في زياراتهم الى اسرائيل.
واعتبرت رئيسة المفوضية الاوروبية أن الحرب في اوكرانيا اثبتت حاجة الاتحاد الاوروبي للانفصال عن مصادر الطاقة الروسية.
وفي المقابل كشفت وزيرة الطاقة الاسرائيلية عن طواقم اسرائيلية تعمل مع الاتحاد الاوروبي حول اتفاقية بيع الغاز الى اوروبا منذ آذار الماضي. كذلك زار رئيس الوزراء الايطالي اسرائيل، فيما زارت وزيرة الطاقة الاسرائيلية مصر حيث التقت الرئيس السيسي للبحث في مسألة بيع الغاز الاسرائيلي الى اوروبا.
في الواقع، إنّ الحرب التي اندلعت في اوكرانيا حفرت عميقاً في الشرق الاوسط وبدلت في معطياته. ويتردّد انّ اوروبا تعمل على اساس ان تكون جاهزة في نهاية العام الجاري لقرار وقف استيراد الغاز الروسي. صحيح انه ما يزال يتدفّق الى المانيا وايطاليا، الا انه تَناقصَ بمقدار كبير في بولندا وبلغاريا وفنلندا والدانمارك. كذلك ثمة تَدنّ في مواقع تخزين الغاز في بعض الدول الاوروبية الى ما دون النصف.
ولكن هناك أمراً في قمة الاهمية ويدفع الى الاستعجال في بدء توريد الغاز الى اوروبا. فالازمة الناتجة من الحرب الاوكرانية دفعت أوروبا الى تفعيل خططها لتطوير استخدام ما بات يعرف بالطاقة النظيفة.
وبمعنى اوضح التخلّي عن الغاز والبترول كلياً في حدود العام 2050. وهذا يعني ان يشهد مستوى استهلاك اوروبا تراجعاً تدريجياً بدءاً من العام 2030 وهنا النقطة المهمة التي يجب على لبنان اخذها في الاعتبار من الزاوية التجارية ذلك انّ الاستفادة الفعلية محدودة زمنياً، ولم يعد أمامه الكثير من الوقت.
وأزمة الطاقة ألزمت رئيس اقوى دولة في العالم بتعديل سياسته، فالرئيس الاميركي جو بايدن ما كان ليقوم بزيارة الى الشرق الاوسط وتحديداً الى السعودية وفق برنامج مختلف عما كان ينادي به لولا أزمة الطاقة، فهو كان قد ردّد انه يريد جعل السعودية دولة منبوذة لكن ارتفاع اسعار النفط، زاد من وَجع الاقتصاد الاميركي، ودفع البيت الابيض الى إدخال تعديلات جذرية على خططه والذهاب الى السعودية حيث سيلتقي ولي العهد الامير محمد بن سلمان والتعديل الذي طاوَل سياسة الادارة الديموقراطية لا يتعلق فقط بالسعي لرفع مستوى انتاج النفط السعودي لخفض اسعار الطاقة التي زادت من نسبة المعارضين في الشارع الاميركي، بل ايضا يهدف الى خفض المداخيل التي ما تزال تَجنيها روسيا من جرّاء تصديرها النفط، وهو ما يخفّف عنها تأثير العقوبات المفروضة عليها ويجعلها قادرة على الاستمرار في تمويل حربها في اوكرانيا.
وعلى رغم من انّ هذا البند يحتلّ الاولوية في زيارة بايدن منتصف الشهر المقبل، الّا انّ ثمة ملفات اخرى لا تقلّ اهمية وتُطاوِل تكريس توازنات ومعادلات جديدة في الشرق الاوسط.
الانعطافة الاميركية فرضت وضع الملف النووي الايراني جانباً ولو لفترة مؤقتة، اضافة الى تفهّم المطالب الامنية السعودية بعدما انكشفَ العمق الامني السعودي في السنوات الماضية امام الصواريخ والطائرات المسيرة المفخخة من قبل ايران والحوثيين.
إذاً، المصالح التي تبدّلت هي التي فرضت القمة التي ستعقد في السعودية، ومعها يصحّ القول انّ الشرق الاوسط الذي يتغير سيؤثر في لبنان بدءاً من الحاجة الاوروبية الى الغاز ووصولاً الى تشكيل المحاور الجديدة ومعها استبدال خطوط التماس بين القوى الاقليمية من مكان الى امكنة اخرى. فزيارة الرئيس الاميركي والتي تم التحضير لها بكثير من العناية، من المفترض ان تشهد إعلاناً عن تعاون امني بين اسرائيل ودول الخليج ودول عربية اخرى في وجه ايران. ذلك انّ بايدن يُشارك في قمة سيحضرها قادة دول الخليج الست بالاضافة الى مصر والعراق والاردن، وخلال التحضير لزيارة بايدن تمّ طرح موضوع فتح التواصل الرسمي بين اسرائيل والسعودية، لكنّ القيادة السعودية اشترطت ان يسبق هذه الخطوة حصول اتفاق بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية وهو ما بَدا مُتعذّراً، فالحكومة الاسرائيلية التي تترنّح وباتت على حافة الهاوية رفض رئيسها حصول اجتماع بينه وبين رئيس السلطة الفلسطينية في حضور بايدن، ولذلك سيلتقي الرئيس الاميركي الرئيس الفلسطيني بمفرده. نفتالي بينيت عَلّل رفضه باحتمال حصول انتخابات مبكرة رغم انه في الواقع يرفض الحل القائم على مبدأ الدولتين. أضِف الى ذلك انّ علاقة اسرائيل التطبيعية مع دول الخليج حقّقت تقدماً كبيراً. فالحركة السياحية بين اسرائيل والامارات حققت ارقاماً كبيرة، في حين حققت السياحة مع البحرين والمغرب نسبة تصاعدية سريعة. لكنّ الاهم اتجاه دول الخليج الى أن تصبح المستورِد الرئيسي للاسلحة وأنظمة الدفاع الاسرائيلية، وهو ما سيفتح احتمالات نقل التوتر مع ايران الى الخليج.
وكشفت القناة 12 الاسرائيلية عن نشر اسرائيل رادارات وانظمة دفاع جوي لدول خليجية وصفتها بالحليفة، بما في ذلك الامارات والبحرين لمواجهة تهديد الصواريخ البالستية الايرانية.
وخلال الاسبوع الماضي تمّ تقديم مشروع قانون في الكونغرس الاميركي، وهو مشترك بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، يهدف الى إنشاء تعاون دفاعي بين الولايات المتحدة واسرائيل وبعض دول الخليج وحلفاء آخرين مثل مصر والاردن.
اهمية المشروع ليست فقط في مضامينه العسكرية، بل خصوصا في تكريسه المحور الجديد الذي ستشكّل اسرائيل نواته الصلبة. وهو ما يدعو الى الاستنتاج أنّ المواجهة بالواسطة والتي كانت تمزّق لبنان، آخِذة في التبلور في اماكن اخرى.
لكن على لبنان أن يقتنِص بسرعة فرصة الاستفادة من ثروته الغازية في البحر، فليس امامه وقتا طويلا قبل دخول اوروبا في مرحلة تخفيف اعتمادها على النفط.
كما انّ لديه فرصة اخرى للخروج من لعبة المحاور والنزاعات الاقليمية، والانصراف الى إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق أسس حديثة، وليس من زاوية الزبائنية السياسية والمنفعة الانتخابية التي نَخرت هيكل الدولة وجَعلته جاهزاً للسقوط والانهيار عند اول مفترق طريق.
باريس التي تتحرك في لبنان بغطاء اميركي، وهو ما عَكسته زيارة هوكشتاين لدارة السفيرة الفرنسية اضافة الى تحركها باسم الاتحاد الاوروبي، لا ترى في لبنان فرصة «نفطية» فقط بل ترى دوراً سياسياً مهماً نظراً لموقعه الجغرافي على المتوسط. ولذلك تستعد فرنسا لطرح مؤتمر «سيدر 2» بهدف اعادة إنعاش الاقتصاد، اضافة الى تأمين ظروف إنجاز تسوية سياسية ستفتح الابواب بلا شك امام الانطلاق في مسار جديد بعد وصول رئيس جديد للجمهورية يتولّى رعاية كل ذلك، ولو بَعد فراغ رئاسي لفترة محدودة.