IMLebanon

لا يهزم هيكل  الا هيكل نفسه !

هذه المرة غادر بتواضع وبصمت، ولم يستأذن بالانصراف كما فعل في ٣٠/٩/٢٠٠٣ ايذاناً بالتقاعد، والتوقف عن الكتابة المنتظمة… رحل بصمت، ولكن محمد حسنين هيكل كان في حياته إعصاراً في الصحافة والاعلام والتنوير والابداع في سبيل مصر والأمة. وكان يكفي أن يقال هيكل في أي مكان في البلاد العربية والعالم، حتى يُعرف مَن المقصود به، اذ بات يُعرف بهذا الاسم المفرد، كما أسماء العظماء في التاريخ الانساني. ومهما كتب عن هيكل في حياته وبعد غيابه فإنه يتناول جانباً واحداً فقط، من حياة حافلة وغنية وزاخرة بالعطاء، وحافظت على ألقها وابهارها لنحو ثلثي قرن من الزمان. ولأن الابحار في أوقيانوس هيكل، في رحلة شاملة، هو مهمة غاية في الصعوبة، لذلك نكتفي بأن نورد بتواضع شديد، بعض ما اختزنته الذاكرة من تعامل مهني مباشر مع الراحل العملاق. وأستأذن في استعمال ضمير المتكلم في هذه العجالة…

كان هيكل هو الاستاذ لأجيال متعاقبة من الصحافيين داخل مصر وخارجها. وكان كل صحافي طموح، يحاول أن يتعلم شيئاً منه، إما مباشرة وإما بالاقتداء. وعندما طلب مني خمسة كبار ومن أكرم عائلات الكويت، تأسيس جريدة القبس بنَفَس وطني وقومي يمثل توجههم، أول ما خطر لي زيارة دار الأهرام لأستلهم تنظيم بناء دار القبس منها، وطلب موعد مع الأستاذ هيكل للتزود بنصائحه قبل الاقلاع، وهكذا كان، وتم اللقاء في منزله على النيل في القاهرة. وبعد سنوات قليلة تم بناء دار القبس وشقت القبس طريقها بقوة في الانتشار داخل الكويت والخليج وكان لها وجود عربياً وخارجياً. ومرة أخرى كانت الحاجة ملحة الى مشورة الاستاذ حول ما تم، ورسم طموح ما يأتي…

أذن لي أصحاب القبس من الاعمام بتوجيه دعوة الى الاستاذ هيكل لزيارة الكويت والقبس، وكان من السماحة والكرم – رغم مشاغله – أن يلبي الدعوة. واجتمع فعلاً مع المشرف المباشر على القبس العم ابو يوسف محمد يوسف النصف رحمه الله كما استقبله أعضاء مجلس الادارة من آل النصف وآل الصقر وآل البحر وآل الخرافي وآل الشايع. وكان هيكل صريحاً في مشورته في نقد ما سبق وايضاح الطموحات المستقبلية، في ضوء الواقع العملي للصحافة في الكويت والخليج…

كانت الصحف العربية تتسابق على التعاقد لنشر المقال الأسبوعي لهيكل لأن ذلك كان يعني زيادة فورية واسعة في الانتشار. وتنافست القبس مع صحيفة كويتية للحصول على نشر مقال هيكل، وكانت النتيجة لمصلحتها. وأحدث ذلك صدمة لي. وبينما كنت غارقاً في التفكير حول ما ينبغي عمله لمواجهة هذه المنافسة، أبلغتني السكرتيرة أن زائراً من مصر يستأذن بالدخول. وكان الزائر صحافي زميل مخضرم وصديق هو الاستاذ ضياء الدين بيبرس. وعندما لاحظ حالتي سألني عما بي، فأخبرته بأمر مقال الاستاذ هيكل. ولمعت فكرة في ذهني فقلت له: متى وصلت؟ قال أمس: قلت: هل تستطيع العودة فوراً الى القاهرة، وتكتب لي موضوعاً أنشره في حلقات؟ استغرب وقال: ما هو هذا الموضوع؟ قلت: قصة حياة هيكل!

قال لي الزميل المحنك: لا داعي للعودة الي مصر. هل لديك أوراق للكتابة. وناولته ما يقارب من مائة ورقة. فضبّ حقيبة يده وقال لي: أنا عائد الى الهيلتون وأراك غداً. وفي اليوم التالي عاد الزميل بيبرس وسلّمني مائة ورقة مكتوبة بخط اليد على الأوراق التي سلّمته إياها في اليوم السابق! وكانت تحتوي على عدة حلقات من حياة هيكل بأسلوب مثير وسلس. وقمت بتوقيت نشر حلقات حياة هيكل في القبس، مع توقيت نشر المقال الأسبوعي في الصحيفة المنافسة. وشدت حياة هيكل اهتمام غالبية ساحقة من القراء أكثر من اهتمامهم بالمقال الأسبوعي…

الدرس الاعلامي الذي تعلمته في الكويت هو: لا أحد يستطيع أن يهزم هيكل الا هيكل نفسه!