IMLebanon

تفاهُم الراعي – جعجع – عون… التشريع بوّابة التحالف؟

يُعتبَر أمس الأوّل يوماً مهمّاً في مسيرة التقارب المسيحي – المسيحي، وبداية المصالحة الحقيقية المبنية على خطّة عمل واضحة تطرَح المطالب المسيحية على الطاولة، ولعلّ أبرزَها قانونا الانتخاب واستعادة الجنسيّة.

بغَضّ النظر عن النقاش الدائر بالنسبة إلى ميثاقيّة الجلسة التشريعيّة أو ضرورتها الحتميّة، فإنّ ما حدث في بكركي أمس الأوّل، كرّسَ معطىً جديداً في الحياة السياسيّة اللبنانية، لا يمكن تجاوزه بعد الآن، على رغم أنّه لم يصل بعد إلى مرحلة التحالف على الأرض.

تُمسِك البطريركيّة المارونيّة بمفاتيح كثيرة على الساحة المسيحية واللبنانية، إن كانت سياسيّة أو حياتية، ما يَجعلها لاعباً أساسياً، يتّسع دورها وينحصر حسب معطيات وظروف البلد، في وقتٍ تتأرجح علاقتها مع الزعماء الموارنة تبعاً للملفات المطروحة، فتارةً يطغى التفاهم وطوراً يسيطر الاختلاف.

راهنَ كثيرون على فشل ورقة «إعلان النوايا» بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحرّ»، مستنِدين في تحليلاتهم ونظرياتهم على عمق الخلافات بين الطرفين، والابتعاد الذي رافقَ حرب «الإلغاء» عام 1990، لكنّه يبدو بَعد مراقبة مسار الأمور، أنّ تفاهم «القوات»- «التيار» باتَ من صلب الحياة السياسيّة والوطنيّة، إذ لم يعُد أيّ من الطرفين يتّخذ قراراً أو يُقدِم على أيّ خطوة تمسّ جوهرَ الورقة، وخصوصاً في الملفّات التي تُعتبَر من الثوابت المسيحيّة والوطنيّة.

الجميع كان ينتظر أن يلينَ الموقف المسيحي من التشريع، خصوصاً مع ضغط المصارف ورجال الأعمال، والتهديد والتهويل بالخطر على الليرة، لكنّ المسيحيين يَعتبرون أن البلد كلّه في خطر وعلى رأس المخاطر، تأتي الشراكة المهدّدة بالزوال، من هنا، أتى توافُقهم المبدئي، والذي تبلوَر من خلال اتّخاذ موقف موحّد من الجلسة التشريعية.

الإكليروس والسياسيّون

إتّفقَ الموارنة سابقاً على مواضيع عدّة، لكنّها لم تسلك طريقَ التنفيذ بسبب الصراع السياسي الحاصل، إلّا أنّ ما حصَل في بكركي أمس الأوّل هو تفاهُم الكنيسة المارونية مع أكبر زعيمين مارونيَين، أي العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، وهذا التفاهم يُعتبر حقيقياً، لأنّه حصَل برغبة الرَجلين وبمباركة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بينما كانت تحصل التفاهمات السابقة بضغط من البطريرك، لذلك، لم تعمِّر طويلاً.

«سبت» بكركي

أمّا كيف وصلنا إلى هذا التفاهم؟ فالجواب واضح، فمنذ صياغة ورقة «إعلان النوايا» وإقرارها بعد زيارة جعجع الرابية، إطّلعَ الراعي على تفاصيلها وبارَك العملَ الجاري بين الوسيطين، النائب إبراهيم كنعان ورئيس جهاز الإعلام والتواصل في «القوات» ملحم رياشي، من دون أن يتدخّل في التفاصيل.

وبينما كان الحذَر يسيطر على الكنيسة وتتخوّف من أن لا تصل المساعي إلى طريق يُفرح قلبَ المسيحيين، اقتربَت ساعة الاختبار الحقيقي، وأتى موعد الجلسة التشريعيّة المرتقَب عَقدها. فأعلنَت «القوات» و»التيار» أنّهما لن يشاركا إذا لم يتضمّن جدول الأعمال قانونَي استعادة الجنسيّة والانتخاب، فيما يرفض الراعي التشريعَ في ظلّ غياب رئيس للجمهوريّة، بينما تضغط الاستحقاقات المالية على السياسيين وبكركي معاً.

تكثّفَت الاتّصالات مساءَ الجمعة، بين بكركي و»القوات» و»التيار»، خصوصاً بعد زيارة رئيس جمعية المصارف جوزف طربيه ولقائه الراعي، وهنا زاد منسوب التشاور بين الأطراف المسيحيّة، لأنّهم يرفضون تحميلهم مسؤولية انهيار ماليّة الدولة، وطلبَ كلّ طرف مسيحي من فريقِه المالي التأكّد من حجم المخاطر الماليّة.

ويوم السبت، تواصل «القوات» و»التيار» مجدّداً، وتمّ الاتّفاق على أن يذهبا إلى الجلسة أو يقاطعاها موحّدين، وأعلما الراعي بهذا الأمر، وفيما كان الليل والظلام يغطّي كسروان، نزلَ جعجع شخصياً إلى بكركي للقاء الراعي، نَظراً لدقّة الموضوع وخطورته، متخَطّياً الخطرَ الأمني، وصَعد كنعان موفَداً من عون وانضمّ إلى اللقاء.

وبدأ الراعي حديثه عن الأزمة السياسيّة التي تعيشها البلاد، وعلى رأسها المخاطر المترتّبة من استمرار الفراغ الرئاسي، فأكّد جعجع على هذه المطالب التي «فهي مطالب القوات أيضاً»، وبعد الانتهاء من هذا الملف، انتقلَ الراعي إلى الحديث عن الجلسة التشريعيّة وسط الأجواء التي تتحدّث عن خطر عدم التشريع، وتمسّك بموقفه الذي ينص عليه الدستور وهو أنّ التشريع في ظلّ غياب الرئيس خرقٌ للدستور، فيما أوضَح جعجع أنّ قانونَي الجنسية والانتخاب مفصليّان، وإذا استطعنا إقرارَهما نكون قد أخذنا ما نريد، عندها أصرّ الراعي على أن يتّفق «القوات» و«التيار» على ما يراهما مناسباً، وموقفُه مبدئي، لكنّه لن يعارض ما يسَيّر أمور اللبنانيين، مؤكّداً أنّه يبارك الاتّفاق بينهما، ولا يرغب في رؤية مشهد الانقسام المسيحي العامودي مجدّداً.

تفاهُم ومباركة

إنتهى الاجتماع، وخرجَ جعجع مطمئناً، ومؤكّداً أنّ «قوانين المصارف وتبييض الأموال مهمّة ولكنّها ليست أهمّ من قانون الانتخاب الذي ما زال منذ عشر سنوات في مجلس النواب، فقانون الانتخابات الجديد وقانون استعادة الجنسية هما قانونان مهمّان، والباقي تفاصيل». وسألَ جعجع:» أليس بقاء النفايات على الطرق كارثة أيضاً؟».

لم يختلف موقف كنعان عن موقف جعجع، إذ قال: «إنّنا مع الأولويات، أكانت ماليّة أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكنّ هذه الاولويات تسبقها أولويات مزمِنة، كاستعادة الجنسية وقانون الانتخاب».

وانهالت الاتّصالات على بكركي بعد انتهاء اللقاء، وحاولَ الجميع معرفة ماذا دار بين الراعي وجعجع وكنعان من أحاديث واتّفاقات، وفي هذه الأجواء لم يشَأ الراعي التصريح بأيّ شيء، بل انصرفَ إلى كتابة عظة يوم الأحد، حيث كان دقيقاً في اختيار المفردات والكلمات، التي تعَبّر عن موقف الكنيسة الحقيقي بعد لقاءاته ومباركته الاتّفاق المسيحي.

موقف الراعي

أشرقَت شمس بكركي نهار الأحد، تحجبُها بعض الغيوم الخريفيّة التي تبشّر بقدوم فصل الشتاء، فيما الجمهورية اللبنانية تخاف من الشتاء الأمني والسياسي والاقتصادي القارس، إستعدّ الراعي للقدّاس مع المطارنة والمؤمنين، وتلا عظتَه التي حسَمت الجدل بشأن التشريع، إذ قال: «مع قلقِنا على عدم حلّ القضية الماليّة العاجلة التي تنذِر بالخطر على الأمن القومي في البلاد، فإنّنا نشدّد مرّة أخرى على التقيّد بالدستور»، معتبرين أنّ «أولوية العمل في المجلس النيابي تبقى انتخاب رئيس للجمهورية».

وأكّد أنّه «في ظلّ الفراغ الرئاسي لا يمكن التشريع بشكل عادي، ولا الخلط بين الضروري الوطني وغير الضروري، وبالتالي لا يجوز انقسام المجلس وتعطيل كلّ شيء».

ودعا «القوى السياسية والمجلس النيابي إلى القيام بإجراء تقني يَسمح بمعالجة هذه القضية المالية التي تفاقمت حتى على صعيد المجتمع الدولي، والتي قد تؤدّي، كما علِمنا، إلى أزمة تَفوق بكثير الأزمة السياسية الراهنة، إذا لم تُسَنّ لها القوانين المطلوبة منذ خمس سنوات.

وفي كلّ حال، يجد المجلس النيابي نفسَه أمام أولويات وضرورات وطنية ينبغي أن يتمّ درسها وتحديدها والاتّفاق عليها من جميع الأطراف السياسية من دون الوصول إلى تشنّجات وتعقيدات تعطيلية وتفسيرات طائفية ومذهبية ومن دون فرضِها فرضاً».

وفي سؤال يَخطر في بال كلّ مسيحي حول عدم إعطاء المسيحيين مطالبَهم المحِقّة، سألَ الراعي: «لماذا مثلاً التردّد بشأن البتّ في مشروعَي قانون هما مطلبان وطنيّان تصِر عليهما كتل سياسية ونيابية مثل: درس قانون جديد للانتخابات مطروح أصلاً في اتّفاق الطائف، ومشروع اقتراح قانون معجّل مكرّر خاص بتحديد شروط استعادة الجنسية المقدّم منذ 2001. ولماذا عرقلتُه بإدخال مواد تختصّ باكتساب الجنسية. فاستعادة الجنسية شيء ولها قانونها، واكتساب الجنسية شيء آخر يجب وضع قانون خاص به».

ومنعاً للالتباس، استوضَحنا من النائب البطريركي العام المطران بولس صياح عن موقف الراعي، فأكّد لـ»الجمهورية» أنّ «موقف الراعي في العظة واضح جدّاً ولا يحتمل التأويل، وهو يَعتبر أنّ التشريع في ظلّ غياب رئيس للجمهورية مخالفة دستورية، والراعي استنَد إلى النصوص الدستوريّة»، لافتاً إلى أنّ «الاتّفاق بين المسيحيين حصَل، والراعي يبارك كلَّ ما يتوصّل إليه «القوات» و«التيار» ويَدعم كلّ توافق مسيحي يَحصل»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ «بكركي هي بطريركية كلّ لبنان، وليس الموارنة وحدهم».

حسَم المسيحيون أمرَهم في شأن التشريع، وباتت الكرة في ملعب الشرَكاء المسلمين الذين عليهم القول صراحةً ما إذا كانوا يَرغبون بإقرار قانون انتخاب عادل وقانون الجنسيّة، أم إنّ الأمور ستسمرّ بمزيد من الاستئثار والاستفراد واستبعاد المكوّن المسيحي عن السلطة، ما قد يفَجّر أزمات جديدة، لأنّ المسيحي الموحّد كما ظهَر الآن هو غيرُ المسيحي المشرذم والمنقسِم على المحاور السابقة.