يتهيّب كل من «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» الإعلان عن وفاة تفاهم 6 شباط 2006. يحاولان الإيحاء بأنّ من الممكن بعثه حيّاً، ولكنّ المسألة تقف أمام استحالتين: أن يوافق رئيس «التيار» النائب جبران باسيل على تبنّي ترشيح «الحزب» لرئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، وأن يوافق «الحزب» على سحب ترشيح فرنجية والإتفاق مع «التيار» على مرشح جديد يسمّيه باسيل ويتبنّاه «الحزب».
الإعلان عن لقاء، أو أكثر، جمع باسيل وممثلين عن «الحزب»، لم يكن كافياً للإيحاء بأنّ العلاقة يمكن أن تكون قابلة للتسوية. فاللقاءات بحدّ ذاتها تحصل وكأنّها سرية. لا تواريخ محدّدة. لا بيان مشترك. لا خبر. لا تحديد للمكان. لا صور. لا إعلان عن هويات من التقاهم باسيل. الحاج وفيق صفا مسؤول وحدة الإرتباط والتنسيق والأمن في «الحزب»؟ أم الحاج حسين الخليل مساعد أمين عام «الحزب» السيد حسن نصرالله؟ أم النائب محمد رعد رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة»؟ كأنّ اللقاء بحدّ ذاته صار فعلاً غير مستحبّ ويستحي به «حزب الله».
الإفطار هو السبب
أساس المشكل الكبير بين «التيار» و»الحزب» يعود إلى تاريخ 8 نيسان 2022. في ذلك اليوم من أيام الصوم في شهر رمضان، لبّى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية دعوة أمين عام «حزب الله» إلى مأدبة إفطار حضرها عدد قليل من مساعديه، الحاج وفيق صفا والحاج حسين الخليل، اللذين تولّيا مسؤولية تأمين التواصل مع كل من رئيسي التيارين. كان السيد نصرالله يريد أن يؤمّن التواصل بين باسيل وفرنجية. ولكن النتائج جاءت معاكسة.
خبر اللقاء الرمضاني أعلن عنه «حزب الله»: «استضاف سماحة الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله على مائدة الافطار يوم أمس الجمعة الموافق 6 شهر رمضان المبارك، 8-4-2022، رئيس «تيار المردة» الوزير سليمان فرنجية ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل بحضور عدد من القيادات المعنية. وكان اللقاء فرصة مناسبة للتداول في العلاقات الثنائية والأوضاع السياسية في لبنان والمنطقة».
اللقاء الذي كان نصرالله يريد منه أن يكون بوليصة تأمين لتمرير استحقاق رئاسة الجمهورية، انتهى إلى خلاف كبير عرقل مساعيَه وخططه التي رسمها من أجل هذا الإستحقاق. خرج فرنجية من اللقاء ليعلن أمام مجموعة من أساتذة «المردة» في القطاع التعليمي الخاص في بنشعي، أنّ «اللقاء مع باسيل جاء في سياقه الطبيعي وبمعزل عن أي تحالف انتخابي كما بات واضحاً وأردناه علنياً، لانّنا نعتمد معكم الشفافية والوضوح… كان هناك حديث عن فتح صفحة جديدة وامكانية استتباع اللقاء بجلسات تنسيقية… اللقاء جرى بدعوة من السيد حسن نصرالله، الذي هو ضمانة لأي لقاء، وكنّا لنلبّي أيضاً لو وُجِّهت إلينا الدعوة من غبطة البطريرك أو من رئيس الجمهورية».
تاريخ ذلك اللقاء سبق موعد الإنتخابات النيابية التي جرت في 15 أيار من ذلك العام، وسبق انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون بستة أشهر. كان كل من نصرالله وباسيل وفرنجية يحسبون لمعركة استحقاق انتهاء تلك الولاية. ولكن كلا منهم كان يريد أن تكون الحسابات في مصلحته. نصرالله كان يريد ضمان بقاء الرئاسة رهن قراره والخروج من أسر وعده لعون بوعد جديد لفرنجية. فرنجية كان يريد أن يردّ له «الحزب» اعتباره ويعوِّضه ثمن خلافاته مع عون وباسيل. باسيل كان يريد أن يؤيّده نصرالله لتأمين استمرار تفاهم 6 شباط ليكون مكمِّلاً لعهد عمِّه عون. وما كاد ينتهي اللقاء حتى بدأت التداعيات السلبية من خلال توالي الثلاثة عن الإعلان في مناسبات عديدة عمّا دار في ذلك الإفطار.
نصرالله يفضل فرنجية
في 11 تشرين الثاني 2022 بعد ستة أشهر على الإفطار، و11 يوماً على مغادرة عون قصر بعبدا إلى مقره في الرابية، حسم نصرالله التكهّنات وأعلن موقفه النهائي من المرشح الرئاسي وحدّد مواصفات تتطابق بشكل عام ومواصفات باسيل وفرنجية. وتحدّث عن مرشح تطمئنّ له المقاومة كإميل لحود وميشال عون وقطع الطريق على حظوظ قائد الجيش جوزاف عون، ورفض بالمطلق ترشيح النائب ميشال معوّض، ولفت إلى أنّ موقع الرئاسة وأهميته يفرضان عدم اختيار أيّ كان رئيساً.
ولكن في الواقع كان نصرالله يعلن تبنّي ترشيح فرنجية طالما أنّ باسيل لم يسبق أن أعلن أنّه مرشح، وطالما أنّه كان أبلغ نصرالله في الإفطار بأنه غير مرشح. في عودة إلى لقاء الإفطار عادت التسريبات لتتحدّث عن أن نصرالله أكّد لباسيل وفرنجية أنّهما مرشحاه للرئاسة. وسأل باسيل إذا كان سيترشّح وأن باسيل نفى ذلك بسبب العقوبات الأميركية عليه وخلافاته السياسية مع معظم الأطراف الداخلية خصوصاً الرئيس نبيه بري الذي لا يمكن أن يوافق عليه. ونتيجة ذلك أبلغ نصرالله باسيل أنّ فرنجية سيكون المرشح الذي سيدعمه «الحزب». وطلب من باسيل تأييد هذا الخيار. لم يوافق باسيل. انتهى اللقاء بوعد كشف عنه باسيل لاحقاً، وهو أن لا يسمّي «الحزب» مرشحاً لا يوافق عليه. عندما سمّى نصرالله فرنجية اعتبر باسيل أنّه خالف الوعد الصادق، بينما اعتبر نصرالله أنّه لم يعد باسيل بمثل هذا الأمر، وأنّ الإفطار انتهى على أساس أنّ للبحث تتمة، وأنّه لا يزال ينتظر أن يوافق باسيل على دعم فرنجية.
باسيل لا يكمّل عهد عون
لم يستطع باسيل، ولا عون طبعاً، تفهّم السبب الذي يجعل «حزب الله» يتمسّك بـ»سليمان فرنجية» مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية، ولم يتقبّلا فكرة أن يتخلّى نصرالله عن خيار باسيل، لأنّه خيار عون. عندما دعم نصرالله عون كان يمثّل أكبر كتلة نيابية مسيحية، وكان على أساس أنّه الأقوى في طائفته. فكيف يمكن أن ينتقل لدعم الأضعف الذي لم يستطع إلّا أن يحصل على مقعد نيابي واحد في زغرتا؟ دعم «حزب الله» باسيل وتياره في انتخابات 15 أيّار 2022، وكان باسيل وعون يريدان هذا الدعم لكي يبقى باسيل رئيساً لأكبر كتلة نيابية. صحيح أنّ الرقم لم يسعفه نتيجة تقدم «القوات اللبنانية» عليه، ولكنّه ما كان ينتظر أن يمنِّنه «الحزب» بأنّه أمّن له عدداً من المقاعد وأنّه مدين له، وأنّ عليه أن ينصاع لخيار التسليم برئاسة فرنجية. ولكن باسيل ذهب في خيار التقاطع مع «القوات اللبنانية» والمعارضة على المرشح جهاد أزعور لهدفين: توجيه ضربة قاضية لترشيخ فرنجية، والمساومة الجديدة مع «الحزب» على مرشح جديد، الأمر الذي لم يقبله نصرالله.
باسيل ما عندو ركاب؟
في إطلالته مساء 12 تموز الحالي، في ذكرى حرب تموز 2006، أعاد نصرالله التأكيد على دعم فرنجية على رغم تسريب المعلومات حول اللقاء بين «التيار» و»الحزب». برّر التمسك به «لأنّه شخص موثوق به، شجاع و»عندو ركاب». وأضاف: «حزب الله لا يريد ضمانات دستورية لكنّ ضمانتنا الحقيقية التي نتطلّع إليها هي شخص الرئيس». وأشار إلى أنّ «شخص الرئيس أساس بالنسبة لنا نعتبره ضمانة، نحن كثنائي وطني هذا ما يعنينا، وبالعودة لحرب تموز كان هناك إنقسام حاد في البلد وكان على رأس الطاولة الرئيس إميل لحود يقاتل بعض الوزراء الذين أرادوا للمقاومة أن تستسلم. شخص الرئيس لحود شكّل ضمانة. كان لدينا ثقة بشخص العماد ميشال عون أيضاً، فنحن وثقنا فيه لأنّه صادق ولا يخون ولا يغدر… كنا نشعر خلال الـ6 سنوات الماضية أنّ ظهر المقاومة آمن ولن يُطعن به… بالنسبة لنا الشخص هو أساس… وشخص رئيس الجمهورية المقبل أساسي بالنسبة إلينا في موضوع ضمانة المقاومة، الوزير سليمان فرنجية يحظى بثقتنا كمرشح للرئاسة ولا يطعن ظهر المقاومة».
كل هذا الكلام يمكن تفسيره أنّ باسيل لا تنطبق عليه هذه المواصفات. وأنّه ليس الشخص الذي يؤمِّن له «حزب الله» بحفظ ظهر المقاومة وما عندو ركاب. أو قد ينقلب على «الحزب» وأنّ «الحزب» لا يضمن ولاءه بعد أن يصير رئيساً نظراً لعلاقات ومواقف ملتبسة. وأنّه قد يكون غير قابل للضغط أو للضبط ويمكن أن ينقلب على «الحزب»، بينما فرنجية المدين للحزب بترشيحه ودعمه لا يمكن أن يخرج عن طوعه. فهو مثل لحود ضعيف الشعبية ومعزول في طائفته ومثابر على تأكيد حضوره في «الخط»، وإن كان يبدي دائماً استعداده للإنفتاح على الجميع والتواصل حتى مع الذين يعارضونه.
توسيع الهوّة وهدم الجسور
الهوّة التي باتت تفصل بين «الحزب» و»التيار» ربما باتت أكبر من قدرتهما على ردمها. حتى أنّ لا قدرة على بناء جسر جديد للعلاقة يمرّ فوقها. كل سيئات تفاهم 6 شباط ظهرت إلى العلن، وبانَ للطرفين أنّ ذلك التفاهم كان حاجة ظرفية لهما أمّن مصالحهما المشتركة وربّما صار عالة عليهما نتيجة افتراق الخيارات في مسألة انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية. كل النظريات حول وحدة المسار والمصير والسياحة والنوم في الضاحية الجنوبية سقطت. ربّما صار المرور في الضاحية حلماً مرعباً لمؤيدي «التيار». يبدو أنّ «التيار» يحسب اليوم كيف أنّه دفع ثمن الدخول في تفاهم 6 شباط وكيف أنّه اليوم مضطر لتدفيعه ثمن الخروج منه. صحيح أنّ شعوراً عاماً كان يسود لدى كثير من أعضاء «التيار» بأمان الإقامة والنوم في الضاحية، ولكن ظهر في المقابل أنّ «الحزب» لم يكن ليفكر بالنوم في الرابية أو حتى في قصر بعبدا. وآن الأوان لتنزل صورة عون من الإطار الذي جمعه ذات يوم بالسيد حسن نصرالله الذي ما عاد يقبل أن يحدّد موعداً لباسيل.